‏إظهار الرسائل ذات التسميات S6 Droit Public. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات S6 Droit Public. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 6 مايو 2018

الدولة المدنية صورة للصراع بين النظرية الغربية والمُحْكَمات الإسلامية



عناصر الدولة المدنية:‏ لكن لو كان لنا أن نتجاوز ما تقدم كله وندخل في التفاصيل بعيدا عن الوقوف عند حد ‏التعريفات، فما عناصر الدولة المدنية؟ وما علاقة ذلك بالإسلام؟ 
يدور الحديث عن عناصر الدولة المدنية حول عدة محاور تقول: "فطبيعتها تتلخص في وجود ‏دستور يعبر عن قيم ومعتقدات وأعراف المواطنين في الدولة، وفي الفصل بين السلطات الثلاث الآنفة ‏الذكر ، وفي اكتساب الحقوق على أساس المواطنة، وعدم التمييز بين المواطنين لا بسبب المذهب أو ‏الطائفة أو الثقافة أو العرف، وفي كفالة حقوق الإنسان والحريات الأساسية، واحترام التعددية والتنوع"‏ 

من خلال ما هو مطروح من المداخلات والمساجلات يتبين أن هناك عدة عناصر منها:‏ 
وجود دستور مكتوب: والدستور هو أعلى وثيقة قانونية في الدولة وهو المرجعية النهائية لجميع ‏القوانين والأنظمة، فكل ما خالفه من أفعال أو تصرفات فهي موصوفة بالبطلان المطلق، وكل قانون أو ‏تنظيم يسن مخالفا للدستور، هو باطل ولا تترتب عليه النتائج التي تغياها القانون أو التنظيم، وكل ما ‏خالف الدستور فيجب نقضه وإلغاؤه 
‏ وقد يختلف الناس في شأن تدوين دستور، وهل هناك حاجة إلى ذلك لتحديد الحدود ‏والالتزامات والحقوق والواجبات بين مختلف فئات المجتمع، وتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أم ‏يُكتفى بما هو موجود في النصوص الشرعية؛ وبما هو موجود في القضايا الإجماعية، والمعلوم من الدين ‏بالضرورة؛ لوضوحه في الدلالة على ما يراد منه.‏ 
‏ والخلاف في ذلك سائغ وهو خلاف في الفقهيات وليس في العقائد، يحكم عليه بالصواب أو ‏الخطأ، ولا يحكم عليه بالحق أو الباطل، أو بالإيمان أو الكفر، ولا يمكن أن يُمنع الخلاف في ذلك بين ‏الناس إلا في ظل القهر والاستبداد، وليس هذا هو جوهر القضية، وإنما جوهر القضية ما الأساس الذي ‏يدون عليه الدستور إذا قيل بتدوينه؟ هل هو الكتاب والسنة وما دلا عليه بوجوه الدلالات المعتبرة، وفق ‏القواعد الشرعية المنضبطة، أو الأساس هو العقل والمصلحة، والخبرة والتجارب، ولا شك أن الخلاف ‏في هذا غير سائغ، وهو خلاف عقدي يحكم عليه بالحق أو الباطل أو بالإيمان أو الكفر، وليس خلافا ‏فقهيا يحكم عليه بالصواب أو الخطأ. ‏ 
إمكانية تداول السلطة: المراد بالسلطة في هذا الكلام الحكومة، بما لها من حقوق وما عليها من ‏واجبات وتبعات، وهي بلا شك في كل الأنظمة سواء الإسلامية وغير الإسلامية لها شروط ‏ومواصفات، ينبغي تحقيقها والتحلي بها، والمشكلة لا تكمن في تداول السلطة، فقد قال عمر رضي الله ‏تعالى عنه الخليفة الثاني: إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ ‏يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ..ثم قال عندما قدم المدينة: مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ ‏وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا"‏ ، فعمر رضي الله تعالى عنه يبين أن البيعة أي تولية السلطة لا تكون إلا ‏بمشورة المسلمين، ويحذر الناس ممن يبايع من غير مشورة، ويبين أن هذا غصب لأمور الناس، ثم يبين أن ‏من فعل ذلك فلا ينبغي مبايعته هو أو الذي بايعه، وقد قال ذلك في المدينة النبوية في خطبة الجمعة أمام ‏الصحابة كلهم بمن فيهم من الفقهاء والعلماء، فلم يعترضه أو ينكر عليه أحد، فدل ذلك على أن هذا هو ‏المعروف لديهم.‏
‏ وعندنا من الواقع العملي أن السلطة تولاها بعد رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ أبو بكر وهو من بني تيم ثم تولاها ‏عمر وهو من بني عدي ثم تولاها عثمان وهو من بني العاص ثم تولاها علي وهو من بني هاشم رضي الله ‏تعالى عن الجميع، فالسلطة انتقلت وتداولها المسلمون وفق الشروط والمواصفات التي دلت عليها ‏الأحكام الشرعية، ولم يحتكرها أحد ويقصرها على نفسه، لكن ليس من معنى تداول السلطة أن يُحدد ‏وقت معين لولي الأمر يفقد بها صلاحيته لولاية الأمر حتى يجدد اختياره من جديد. ‏ 

والمشكلة الجوهرية مع أنصار الدولة المدنية في هذه المسألة تكمن في الشروط والمواصفات التي ‏ينبغي توافرها فيمن يُولى الأمر، وليس في تداولها، فهل من شروط الحاكم عندهم أن يكون مسلما، أم ‏يجوز أن يكون كافرا شقيا ما دام أنه يتمتع بصفة المواطنة؟ وهل يشترط عندهم أن يكون صالحا تقيا أم ‏يجوز أن يكون فاسقا عصيا لرب العالمين ؟ وهل يشترط عندهم أن يكون رجلا أم يجوز أن تكون امرأة؟ ‏ 
لكن أهمية الحديث عن تداول السلطة عند كثيرين تنبع من أن السلطة في عرفهم صارت مغنما من ‏المغانم وليست مغرما، لذلك يطالبون بنصيبهم من هذا المغنم، ورضي الله تبارك وتعالى عن عمر عندما ‏رفض أن يعهد بالأمر من بعده لمن يهمه أمره، وقال: لا أتحملها حيا وميتا، والتداول لا يمثل قيمة ‏جوهرية في الفقه السياسي الإسلامي، وإنما القيمة تكمن في قدرة ولي الأمر على القيام بمهامه على الوجه ‏الأحسن، فإذا كان ولي الأمر قائما بما يجب عليه، محققا للمقصود من نصبه من غير إخلال أو تقاعس عن ‏القيام بمهامه وواجباته، فليس هناك معنى معقول لإخراجه عن السلطة بزعم تداولها، وفي الجهة المقابلة ‏فإنه متى تقاعس ولي الأمر عن القيام بواجباته، ولم يكن نصبه محققا للغرض المقصود منه فإن الشريعة لا ‏تأمر بالإبقاء عليه واستمراره في منصبه، بل يوعظ وينصح ويوجه فإن استقام وإلا فالعزل طريقه ‏ 
الاعتراف بالآخر: ما المراد بالاعتراف به؟ الاعتراف بوجوده، أم الاعتراف بحقوقه التي كفلتها له ‏الشريعة، أم الاعتراف بواجباته التي أناطتها به الشريعة، أم الاعتراف بأنه على دين يخالف دين الإسلام، ‏أم الاعتراف بأن له الحق في أن يدعو بين المسلمين إلى دينه، وأنه يحق له إقناعهم بالتحول إليه.‏ 

ونقول: الاعتراف بالموجود لا حاجة له، فنفس وجوده دليل عليه وهذا من البدهيات لا يحتاج إلى ‏اعتراف، وأما الاعتراف بحقوقه وواجباته وفق الشريعة فلم يعارض في ذلك أحد ممن يؤخذ عنه العلم، ‏ولا ينبغي أن يعارض في ذلك أحد، وأما الاعتراف بأنه على غير دين الإسلام فهذا من أساسيات ‏الإسلام، فكل من لم يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فهو على غير دين الإسلام، ما بقي إلا ‏شيء واحد وهو أن يكون الاعتراف بالآخر يعني الاعتراف بحقه في أن يدعو المسلمين إلى دينه، أو أن ‏يُمكنوا من بناء أماكن لعبادتهم‏ ‏ في أمصار المسلمين التي لم يكونوا بها من قبل، بل مصَّرها المسلمون، ‏لكن نحن نسألكم هل هناك أدلة تدل على ذلك؟ وإذا لم تكن هناك أدلة تدل على ذلك، بل كانت الأدلة ‏تدل على عكسه، كانت المطالبة به على أساس أنه من مواصفات الدولة المدنية، قدحا في تلك الدولة لأنها ‏تقوم على مخالفة الشرع. ‏ 

قبول الديمقراطية: وقد تقدم الحديث عنها في مقال سابق فلا مسوغ للإعادة ‏ ‏: ، لكنا نقول لقد ‏أثبتت حوادث الأيام أن الديمقراطية في تلك الدول التي تزعم ريادتها في هذا المجال مجرد شعار أجوف، ‏فلقد شنت أمريكا الدولة الديمقراطية ومعها بريطانيا الدولة الديمقراطية أيضا، وبالتحالف مع عدة ‏دول ديمقراطية أيضا، حربا ظالمة على العراق بزعم وجود أسلحة دمار شامل في تلك البلد، ثم تبين بعد ‏ذلك أن هذه الأخبار كانت ملفقة حتى إن وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول اعترف بذلك، ‏فماذا كانت النتيجة هل اعترفت أمريكا وبريطانيا وذيولهم بالخطأ، وندموا على ما فعلوا وقدموا ‏تعويضات لهذا الشعب، الذي قتل منه بسبب هذه الحرب الهمجية أكثر من مائتي ألف مواطن.‏ 
لقد اعترضت طوائف كثيرة من شعوبهم على تلك الحرب غير الأخلاقية فما أصغوا إليهم، ثم أين ‏سيادة القانون التي يدعونها، وهم قد خالفوا القانون الدولي الذي يلزمون به الدول الأخرى، وذلك ‏بالتدخل في شئون دولة مستقلة من غير تفويض من (المجتمع الدولي)! بذلك، والأغرب من ذلك أن ‏الأمم المتحدة نفسها قامت على أساس غير ديمقراطي، حيث هناك خمسة دول كل دولة منهم تملك ‏تعطيل أي قانون أو مشروع حتى لو وافقت عليه دول العالم كلها، فأين الديمقراطية في ذلك؟، أم إنها ‏احتكار للقرار الدولي، فلو وضع صوت دولة من هذه الدول في كفة وبقية العالم في كفة لرجحت كفة ‏هذه الدولة، فما أشد هذا الظلم وأقساه على النفوس الأبية، وكم ذقنا من مرارته كثيرا، فها هم اليهود ‏يعتدون على إخواننا الفلسطينيين ويقتلون منهم في سيناريو شبه يومي، فلو قدر أن ضمير العالم صحا لهذا ‏الظلم الشنيع، وأخذ قرارا بالإدانة مجرد قرار لا يترتب عليه شيء في الواقع، وجدنا أمريكا تعترض عليه، ‏بما لها من هذا الحق غير (الديمقراطي) فيصبح كأنه لا شيء. ‏ 
الحفاظ على حقوق الإنسان: الناس لهم حقوق كثيرة كفلتها لهم الشريعة ينبغي أن يمكنوا منها، ‏ولا يجوز لأحد أن يحول بينهم وبين حقوقهم التي منحها الله لهم، ولا يفعل ذلك إلا جبار عنيد، ‏فالحقوق ممنوحة من الله تعالى لم تمنحها الطبيعة ولم يمنحها الحاكم، وفي هذا أعظم صيانة لهذه الحقوق، ‏ومن هذه الحقوق أن الكافر لا يكره على الدخول في دين الإسلام، بل يعرض عليه الإسلام فإن قبله ‏ونطق الشهادتين دخل في الإسلام، وإن أبي وأصر على البقاء على دينه فلا يكره ولا يجبر على تغييره، وكل ‏ما يطلب منه في هذه الحالة أن يفي بعقد الذمة الذي بينه وبين الدولة المسلمة ولا ينقضه، وهذا أمر مقرر، ‏وكل ذلك لا خلاف عليه بيننا وبين من يقبل به سواء كان من أدعياء الدولة المدنية أم من غيرها.‏ 

‏ لكن هل من الحقوق أنه يجوز للمسلم أن يغير دينه إلى اليهودية أو النصرانية أو إلى لا دين؟ هذا ‏محل خلاف بيننا وبين دعاة الدولة المدنية، هم يرون ذلك حقا له، وأنه لا حد في الردة، وأن المرتد هو ‏الشخص الخارج على النظام فهذا الذي يجب قتله، ومن غير كبير خوض في التفاصيل فإن كل مسألة من ‏تلك المسائل قد يستغرق الكلام فيها حيزا كبيرا، فنقول: أنتم لستم أول المسلمين، ولا أنتم صحبتم ‏رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ وفقهتم عنه، كما أن الإسلام لم يكن معطلا قبلكم حتى جئتم أنتم تطبقونه، فخبرونا مَن مِن ‏أهل العلم الذين يرجع إلى أقوالهم عند الخلاف، قال بهذا القول، فإذا لم تستطيعوا-ولن تستطيعوا- أن ‏تثبتوا أن أحدا من أهل العلم بدين الله تعالى قد سبقكم بما تقولون، فقد أحدثتم في دين الله تعالى، وقد ‏قال رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ : "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ"‏ ‏ وهو حديث متفق عليه أخرجه ‏الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما من أهل الحديث وفي رواية: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ ‏رَدٌّ". ‏ 

على أن هناك حادثتين تتعلقان بهذا الموضوع يحسن بنا إيرادهما تبين أن الكلام على حقوق الإنسان ‏والدندنة حوله ليس في حقيقته أكثر من تمكين فئات الأقلية من التحكم في الأكثرية، تحت ضغط الدول ‏المدنية الكبيرة وتأثيرها على متخذي القرارات في الدول الضعيفة، فقد حدث أن امرأة نصرانية في مصر ‏اهتدت إلى أن الإسلام هو دين الحق فأسلمت، لكن الذين يتكلمون عن حقوق المواطنة هاجوا وماجوا ‏ومن ورائهم ضغط الدول المدنية الكبيرة حتى سَلَّمت الدولة المصرية المرأة المسلمة إلى الكنيسة لتعتقلها ‏داخل الدير، وقد يضغطون عليها هناك تحت ظروف الاعتقال فيردونها إلى الكفر مرة أخرى، فجعلت ‏منها دولة داخل الدولة، ولم نسمع أي نكير من أي دولة مدنية كبيرة أو صغيرة على هذا الاعتداء الصارخ ‏على حقوق الإنسان، ولو قارنت هذا بما حدث من رجل أفغاني ارتد عن دين الإسلام حينما قدم ‏للمحاكمة، كيف قام العالم النصراني كله يدافع عن حقه في اختيار الدين الذي يريده، وأن محاكمته على ‏اختياره هو اعتداء على حقوق الإنسان، وضغطوا على حكومة ذلك البلد حتى خرج في أقل من ثمانية ‏وأربعين ساعة من أمام المحكمة التي يحاكم بها، ليسافر معززا مكرما لاجئا إلى بلد نصراني ‏

السماح بالحريات: الحرية مطلب تحرص عليه النفوس الأبية التي تأنف أن تكون ذليلة أو تابعة ‏لبشر مثلها، ولا ينبغي أن يحجر على الإنسان ويمنع من حريته التي كفلتها له الشريعة، لقد كان ‏الاختلاف المذهبي أحد أبرز مظاهر حرية الرأي عند المسلمين، فرغم أنه خلاف في فهم الدين والعمل، ‏فإنه لا جبر ولا إكراه على القبول برأي لا يرضاه الإنسان، ولكل إنسان الحق في الاحتفاظ برأيه والعمل ‏به ما دام رأيه لا يصادم النصوص الشرعية ولا يخالف القواعد المرعية، ويحق للمسلم التمسك برأيه ولو ‏كان في مواجهة رأي الخليفة، وهناك نماذج وأمثلة كثيرة حدثت في تاريخ المسلمين.‏ 

‏ فالخلاف في الرأي والتصورات ظاهرة إنسانية لا يمكن نفيها ولا القضاء عليها، والخلاف ليس ‏مقصورا على المسلمين فكل أصحاب المذاهب الأخرى يختلفون، ولكن بفارق مهم جدا وهو أن ‏المسلمين لهم مرجع يرجعون إليه جميعا، يكون لهم ضابطا يعصمهم من تحول الخلاف في الرأي إلى افتراق ‏وتشتت بين أفراد الأمة وانقسامها إلى طوائف وشيع وأحزاب، بعكس المذاهب الأخرى فليس لهم ‏مرجع يرجعون إليه غير ما تهديهم إليه عقولهم وغير ما يظنون منفعته وفائدته، وهذا من شأنه أن يجعل ‏الإنسان متقلبا لا يستقر على رأي أمدا طويلا، ضرورة قصور علم الإنسان وجهله، فما كان حقا وصوابا ‏عندهم اليوم قد يرونه غدا خطأ وضلالا‏ ، لكن هل من حرية الرأي أن يعيب المسلم أو غير المسلم الدين ‏ويقدح في الشريعة؟ فالمسلم مطالب بأن يعظم شعائر الله وأن يعظم حرمات الله فمخالفة ذلك ليس من ‏حرية الرأي، بل من الخروج على الدين الذي ينبغي أن يحاسب عليه من فعله، وهل من الممكن تحت زعم ‏عدم التضييق على الإبداع والمبدعين أن يترك لهم الحبل على الغارب فيعيثون في أخلاق الأمة وعقيدتها ‏وشعائرها فسادا؟، وأما غير المسلم فلا يطالب بذلك مثل المسلم، فإن عدم إسلامه يعني طعنه في دين ‏الإسلام، لكن لا يقبل منه إظهار ذلك بين المسلمين، والإعلان به، أو الدعوة إليه. ‏ 

وهكذا لو ذهبنا نعدد كثيرا من تلك الأمور التي يعدونها من عناصر الدولة المدنية، فقد لا نجد ‏اختلافا عند الكلام المجمل، ولكن المحك الحقيقي عند ذكر التفصيلات حيث يظهر الاختلاف، فمثلا ‏مَنْ من الناس لا يريد العدل ولا يطالب به؟، لكن ما هو العدل ؟ هذا يختلف باختلاف كل أمة، فما يكون ‏عدلا عندك قد يكون ظلما عند الآخرين، فأمريكا اليوم مثلا ترى من العدل والحق أن يقوم اليهود ‏بضرب الفلسطينيين في غزة بالطائرات والمدافع من أجل فك أسر الجندي اليهودي المأسور، بينما ترى أن ‏محاولة الفلسطينيين فك أسراهم من الظلم الذي ينبغي أن يعاقبوا عليه. ‏ 

وبكلام مجمل: نقول لدعاة الدولة المدنية والمبشرين بها‏ 
‏ - هل ما تذكرونه عن الدولة المدنية من حيث معناها وعناصرها، دل عليه ديننا وشريعتنا بأي نوع ‏من الدلالات المعتبرة عند أهل العلم؟ فإن قلتم: نعم دل على ذلك، قلنا: أين هي النصوص التي تتحدث ‏عن ذلك وما وجه دلالتها؟، وإن قلتم: لم تدل على ذلك النصوص وإنما دلت على خلافه، قلنا: لا حاجة ‏لنا فيما يخالف شرعنا، وإن قلتم: إن النصوص لم تدل على اعتباره كما أنها لم تدل على إلغائه، فاجتهدنا ‏نحن في ذلك من باب المصالح المرسلة، قلنا: لستم أنتم من أهل الاجتهاد، فليست لكم أية دراسات ‏مقدرة في الشريعة، وكل علم له رجاله المتخصصون فيه، وهذه بدهية من بدهيات العلوم، ومن تكلم في ‏غير فنه أتى بالأعاجيب، وإن قلتم: نحن لا يعنينا الاتفاق أو الاختلاف مع الأحكام الشرعية، والذي ‏يهمنا هو ما نرى فيه المصلحة، قلنا: إذن فقد خلعتم بذلك ربقة الإسلام من أعناقكم ‏ 
‏-أنتم في ظاهركم تقرون وتعترفون أن الله تعالى هو خالق هذا الكون العجيب بسماواته العظامن ‏وأراضيه الشاسعة، وخالق الحياة كلها، والذي أحكم هذا الكون إحكاما يحار فيه أولو الألباب، مقرين ‏بعلم الله تعالى وحكمته وعظمته، أفتستكثرون على الله تعالى أن ينزل على عباده ما يهديهم في شئون ‏حياتهم، أم تظنون أن الله تعالى خلق الخلق ورزقهم من المال والبنون، ثم تركهم يديرون حياتهم بغير بغير ‏هداية منه ورشاد، ألم يقل الله تعالى منكرا على من يريد أن يستقل ويضع بنفسه ما يحكم به مجتمعه ‏‏[أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {المائدة:50} ‏ 
‏- ما الذي يدعوكم للمطالبة بالدولة المدنية، وما الذي يحملكم على التضحية بدين الأمة، وما ‏المكاسب التي ترونها في التمسك بالدولة المدنية، وهي ليست في الدين، وهل هناك ما يدعو إلى استخدام ‏هذا الاسم المشتمل على قضايا مقبولة، وقضايا تتعارض مع الدين، ولماذا العدول عن اسم الدولة ‏الإسلامية أو الشرعية أو الدينية، ما الذي تنقمونه من هذه التسمية، هل تشتمل على قضايا غير مقبولة؟، ‏إن كانت هناك ممارسات غير مقبولة وقعت من بعض المسلمين أو حكامهم، فهل هي مقبولة إسلاميا؟ ‏بمعنى آخر: هل هي من نواتج التمسك بالإسلام أو من نواتج البعد عنه والخروج عليه؟، وإذا كانت من ‏نواتج البعد عنه والخروج عليه فلماذا تلصقونها به، وتحملونه ما هو منه بريء ‏ 
‏- هناك من يحاول أن يبين أن الدولة المدنية هي دولة المؤسسات، وأنها لا تعارض الدين ولا تعاديه... إذا ‏قلتم هذا فلماذا تأبون وصفها بدولة إسلامية أو شرعية أو شرعية أو دينية، ولماذا التركيز على أنها دولة ‏مدنية، وهل كانت الدولة التي أقامها رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ دولة مدنية أو دولة إسلامية، وكذلك الدولة التي ‏أقامها خلفاؤه من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهلم جرا 
‏- هناك من يقول نريد دولة مدنية بمرجعية إسلامية، إن هذا القيد في حد ذاته يمثل اتهاما حقيقيا ‏للدولة المدنية من قبل دعاتها، فإن هذا الكلام يبين أن المرجعية الدينية ليست من صفات الدولة المدنية ‏ولا من خصائصها وأركانها، وإلا لما احتاج هذا المتكلم إلى إضافة ذلك القيد.‏ 
‏- والدولة المدنية لم تمنع السلطة من تفسير القانون حسب ما تهوى، واعتبر ذلك بما حدث من ‏احتجاز أمريكا الدولة المدنية الكبرى لأكثر من أربعمائة مسلم في معتقل بخليج جوانتنامو مخالفة بذلك ‏القانون الأمريكي والقانون الدولي واتفاقيات الأسري بجنيف، بل وصل الأمر أكثر من ذلك حيث ‏التنصت على مكالمات الأمريكيين أنفسهم بدون سند قانوني وكل ما قدمته الإدارة من تفسير في ذلك أن ‏الوضع خطير وأنه لا يمكن محاربة الإرهاب إلا بتلك الطريقة وهذه دعاوى لا يعجز أحد عن تقديمها ‏فماذا فعلت الدولة المدنية إزاء ذلك؟ 

وأخيرا: إن المشكلة الحقيقية التي تحياها مجتمعاتنا لا تحل بمجرد إقرار لفظ أو نفيه، فهناك كثير من ‏الدول العربية التي تقول عن نفسها إنها دولة مدنية ولم يخرجها ذلك عن حالة التخلف التي هي سمة ‏لكثير من مثل هذه المجتمعات، إن المشكلة الحقيقية تكمن في انفصال العمل عن القول، وأن كثيرا من ‏النخب الحاكمة تتعامل مع الحكم وكأنه تركة من حقها أن تفعل به ما تشاء، في ظل غياب رقابة شعبية ‏ورسمية حقيقية قادرة على الفعل، ولو ولت النخب الحاكمة وجهها شطر شرع الله تعالى لأفلحت ‏وأنجحت، ولقادت مجتمعاتها من حالات التخلف الراهنة في أغلب الميادين، إلى مدارج العلا، ائتوني ‏على مدار التاريخ الإسلامي كله في البلاد التي حكمها الإسلام، بدولة تمسكت بالإسلام حقا، ثم لم تكن ‏متقدمة على نظرائها في أغلب المجالات. ‏ 

شبهات والجواب عنها:‏ 

من الشبهات التي يعترض بها البعض أن القول بإسلامية الدولة يعني عدم إمكانية سؤال الحاكم ‏أو محاسبته: فيقولون كون الدولة إسلامية أو شرعية أو دينية يمنع من نقد الحكام عند وقوعهم في الخطأ، ‏ويجعلهم في مكانة عالية لا يقدر أحد على حسابهم، إذ كل ما يقولونه فهو تعبير عن الإرادة الإلهية، ونحن ‏نقول لهم: أنتم تتحدثون عن دين غير دين الإسلام، وإلا فأتوا لنا بآية أو حديث يدل على هذا الزعم، أو ‏يمكن أن يستفاد منه هذا الزعم، ثم هذا تاريخ المسلمين مَنْ مِن الحكام ادعى هذه المنزلة؟، ومَنْ مِن أهل ‏العلم قال بشيء مثل ذلك؟، وأمامكم سير الخلفاء حيث كانت رعيتهم تنصحهم وتنتقد عليهم ما يرونه ‏خطأ من تصرفاتهم، والأمثلة كثيرة وهي معلومة لكثير من الناس ومعلومة لكم أيضا، بل حتى في أشد ‏المواقف حُلكة كان الناس يراجعون ولاة أمورهم أو يعترضون عليهم، فهذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه ‏عندما أراد قتال مانعي الزكاة، بعد وفاة الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ عارضه عمر، وقال: كيف تقاتل الناس ..الحديث ، ‏فلم يمنعه أبو بكر من ذلك، ولم يقل له-كقول البطالين-نحن في زمن حرب، ولا صوت يعلو على ‏صوت المعركة، بل بَيَّن له بالدليل صواب موقفه، حتى اقتنع عمر رضي الله عنهما بذلك، وهذا عبد الله بن ‏عمر يختلف مع خالد بن الوليد رضي الله عن الجميع وهو أميره في غزاة غزاها معه، ويمتنع من تنفيذ ما ‏أمر به، لمخالفة خالد باجتهاده للسنة الصحيحة، فلما بلغ رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ الأمر لم يعنف عبد الله على عدم ‏طاعته لخالد، بل قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين ، ولو قدر أن هناك أحدا من الولاة منع ‏من ذلك لعد عند الناس ظالما مما يعني أن الثقافة الشعبية لا تقبل مثل هذا الادعاء.‏ 

ومن الشبهات أن الدولة الإسلامية أو الشرعية أو الدينية يترتب عليها ظلم المخالفين في الدين: ‏وهذا مجرد ادعاء عار عن الدليل كما أن التاريخ والسيرة العملية التي درج عليها المسلمون في تعاملهم مع ‏المقيمين بينهم من أهل الديانات المغايرة لدين الإسلام، تدحض ذلك، أما إذا كانت هناك حالات فردية ‏يقع فيها بعض الناس في ذلك، فلا يسلم من ذلك أحد سواء في معاملته مع هو من أهل دينه أو مع من ‏يختلف معه، وإنما الشأن أن يكون النظام العام هو الذي يشرع ذلك أو يقبله.‏ 

ومن الشبهات: أن يقال أن الدولة الإسلامية أو الدينية تحمل المخالفين على تغيير دينهم: وهذا ‏أيضا ادعاء لا يعضده نصوص شرعية أو واقع تاريخي، والغريب أن هؤلاء الذين أهمهم هذا الأمر، لم ‏يهمهم أمر الأمة كلها، فهم من اجل ألا يحمل المخالفون على تغيير دينهم بزعمهم، يطالبون الأمة بأن ‏تتخلى عن التمسك بدينها في السياسة والاقتصاد والقضاء والمعاملات،والرجوع في ذلك كله إلى عقول ‏الناس وخبرتهم، وهذا من أغرب أنواع الظلم إذ بزعم العدل مع المقيمين من غير المسلمين في بلاد ‏المسلمين، يُظلم المسلمون أنفسهم في بلادهم، وهل هناك ظلم أشد من أن يُحمل المسلمون على ترك ‏الكثير من أمور دينهم ‏ 

ومن الشبهات: أن يقال إن تعبير الدولة الدينية قد أسيء استخدامه في العصور المظلمة من تاريخ ‏الغرب مع كنيسته، ولا نريد استخدام لفظ مُحمَّل بمثل هذه الدلالات، حتى لا نحمل أوزار أمور لسنا ‏المسئولين عنها، ويقال إن ما يذكر هنا ليس راجعا إلى اللفظ نفسه إنما راجع إلى سوء استغلاله، ولو ترك ‏استعمال لفظ صحيح لا يحتمل أمورا خاطئة من أجل أن هناك من استعمله بطريقة خاطئة لم يكد يسلم لنا ‏شيء، وهذا بعكس ما إذا كان الخطأ راجعا لاحتمال اللفظ نفسه أو لصلاحيته للدلالة على أكثر من معنى ‏بعضها صواب وبعضها خطأ، فهذا الذي يمكن أن يقال فيه ذلك، على أنكم إذ أنكرتم هذا فقد وقعتم ‏فيما تفرون منه، إذ إن لفظ الدولة المدنية لم يسلم من هذا الذي تذكرون، فإن أغلب حديث الناس عن ‏الدولة المدنية أنها الدولة العلمانية، وبالتالي لا يصلح الانتقال إليه حتى لو قلتم لا نريد منه هذا المعنى، ‏ولماذا لم تقولوا بالدولة الدينية وتقولون لا نريد منها المعنى الذي استقر في أذهان الغرب، أليس هذا أولى؟ ‏أو تبحثوا عن مصطلح آخر يحقق ما تأملونه من خير من غير أن يكون حاملا لتلك الدلالات الفاسدة، ‏فقد كان بإمكانكم أن تختاروا مثلا مصطلح الدولة الإسلامية، أو مصطلح الدولة الشرعية أو الدولة ‏الراشدة، أو الصالحة، أو أي مصطلح لا يحمل البذور الفاسدة. ‏ 

ومن الشبهات: أن حقوق المواطنة لا يمكن الحفاظ عليها إلا في ظل دولة لا تتخذ من الدين ‏مرجعية لها، أي أن الدولة ينبغي أن تكون علمانية لا دينية وهي الدولة المدنية، أما المواطنة بمعنى ‏الاعتراف لكل قاطن للدولة الإسلامية سواء كان من المسلمين أو كان من غيرهم بأنه مواطن فهذا لا ‏ينازع فيه أحد، وكل واحد من مواطني الدولة الإسلامية له حقوق وعليه واجبات فكل إنسان له حق في ‏العيش الكريم، وله حرمة سكنه وماله وعرضه، وله حق التكسب سواء عن طريق التجارة أو الصناعة ‏أو الزراعة، وله الحق في أن يلقى معاملة عادلة لا ظلم فيها، وله حق التنقل والسكن في أي مكان يشاء، ‏وله الحق في سرية مراسلاته، وله الحق في أن يبقى على دينه ولا يكره على تغييره، وله الحق في العبادة، وله ‏الحق في أن يتناول ما يبيحه له دينه وإن كان محرما في شريعة الإسلام، وهذه الحقوق التي يعطاها المواطن ‏غير المسلم في الدولة الإسلامية لا يعطاها كثير من المسلمين الصادقين في بلادهم التي يزعم قادتها أن ‏دولتهم دولة مدنية، لكن هناك بعض الأمور التي يختلف فيها غير المسلم عن المسلم وهذا أمر لا غرابة ‏فيه، ما دام إن هذا الاختلاف مقرر بالشرع الذي يؤمن به المسلمون، لكن الذي لا يمكن قبوله أن تختلف ‏بعض أحكامهم انطلاقا من الهوى لا من الشرع، ومن أراد أن لا تختلف بعض أحكامهم المقرر اختلافها ‏بالشرع، فهو شهادة منه على أن الالتزام بالدولة المدنية معناه مخالفة الشرع والخروج على أوامره.‏ 

وعندنا من النصوص الشرعية ما يحفظ حق هؤلاء بل يصير إيصال الحقوق لهم وعدم الانتقاص ‏منها من الدين الذي ينبغي اتباعه، قال رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ المبلغ عن ربه وحيه وأمره فيمن قتل ذميا بغير جرم: ‏‏"مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا"‏ ‏ و عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ‏رضي الله تعالى عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ كَانَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ :الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَمَا ‏زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى مَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ"‏ ، وقد قال المسلمون لعمر رضي الله تعالى عنه: " أَوْصِنَا يَا أَمِيرَ ‏الْمُؤْمِنِينَ قَالَ أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ"‏ ، وهذا عمر بعدما طعن وفي هذه الشدة ‏وذلك الموقف العصيب لكن هذا لم يحل بينه وبين الوصاة بأهل الذمة، فقال أوصي الخليفة من بعدي: ".. ‏وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَأَنْ لَا يُكَلَّفُوا فَوْقَ ‏طَاقَتِهِمْ"‏ ‏ ومر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل : شيخ كبير ضرير البصر ، ‏فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي ، قال : فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال ‏‏: أسأل الجزية والحاجة والسن ، قال : فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل ثم ‏أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم ‏‏( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) والفقراء هم المسلمون ، وهذا من المساكين من أهل الكتاب ، ‏ووضع عنه الجزية وعن ضربائه"‏ ، وفي عقد الذمة الذي عقده خالد لنصارى الحيرة: "وجعلت لهم أيما ‏شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات ، أو كان غنيا فافتقر ، وصار أهل دينه يتصدقون عليه ‏، طرحت جزيته ، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله" ‏ 

ومن الشبهات أيضا حيادية الدولة: حيث يرون أن الدولة المدنية دولة حيادية تجاه جميع الأديان في ‏المجتمع، بينما الدولة الإسلامية لا تتمتع بهذا الحياد، "إن مفهوم الدولة المدنية هو باختصار يعني حيادية ‏الدولة التام تجاه الأديان، وهو ينهل أساساً من مفهوم حرية العقيدة الذي جاء به الإسلام أولاً"‏ ،. ‏‏"علمانية الدولة ببساطة شديدة هي أن تقف الدولة موقف الحياد من العقائد والمذاهب التي تدين بها ‏مكونات شعبها، بمعنى ألا تكون في قراراتها وسياساتها وخططها وتعييناتها – بما في ذلك مناهجها ‏التعليمية وسياساتها الإعلامية والثقافية - منطلقة من مذهب أو عقيدة أو مرجعية دينية معينة، وإن ‏كانت عقيدة ومرجعية الأغلبية، لما في ذلك من تهميش لعقائد الآخرين وتمييز ضدهم وإخلال بمبادئ ‏المساواة والعدالة والمواطنة، ومن هنا حرصت البلاد التي انتهجت الديمقراطية الليبرالية الحقة وأقامت ‏الدولة المدنية الحديثة على عدم تضمين دساتيرها ما يفيد بديانة الدولة"‏ ‏ والحيادية تجاه الأديان تعني ‏عدم ميل الدولة تجاه دين معين، وأنها تتعامل مع الجميع على قدم المساواة، فلا تمدح دينا أو تدعو إليه، ‏ولا تذم دينا أو تهاجمه،وهذه الحيادية التي يتكلمون عنها غير موجودة في واقع الأمر في الحقيقية في أي بلد ‏من البلدان، وعندنا فرنسا التي تعد على رأس الدول المدنية كيف منعت النساء المسلمات في فرنسا من ‏ارتداء الحجاب، وهذه دولة الدنمارك وهي دولة مدنية كيف سخر رساموها من خير البرية ‏ صلى الله عليه وسلم ، ثم ‏من منظورهي آخر تناقض الإسلام مناقضة تامة، حيث سوت بينه وبين الأديان المحرفة كالنصرانية ‏واليهودية وغيرها، ومن أغرب الغرائب أن يعمد هؤلاء الكتاب إلى المطالبة بتهميش عقيدة الأغلبية ‏حرصا على عدم تهميش عقيدة الآخرين، أي عقل منكوس هذا الذي يقرر مثل هذا الكلام، ثم هذه ‏الحيادية المزعومة ليست حيادية لأنها فقط أقصت الدين، وانحازت إلى العقل والخبرة والتجارب، ‏والإسلام وإن كان لا ينكر دور العقل الذي هو مناط التكليف وكذلك دور الخيرة والتجارب لكن ذلك ‏لا يمكن أن يكون عوضا عن الإسلام نفسه، أو يعارض به، وأما أن الإسلام لا يكره أحدا على الدخول ‏فيه فهذا حق، لكن هذا لا يعني أبدا حيادية الدولة الإسلامية تجاه الإسلام، فإن من أهم واجبات ولي ‏الأمر المسلم التي نص عليها أهل العلم باتفاق هي إقامة دين الله تعالى وتحكيم الشريعة، وسياسة الدنيا ‏بالدين .

القضاء الدستوري أكبر سلبيات الدستور السادس

القضاء الدستوري أكبر سلبيات الدستور السادس




عبد الرحيم العلام*



ارتبط القضاء الدستوري، كفكرة وتطبيق، بشكل وثيق بنمو وتطور حركة الدسترة التي هدفت إلى إخضاع أعمال السلطات العامة لمجموعة من القواعد القائمة داخل نص أطلق عليه اسم « دستور»، حيث اعتُبر الدستور بمثابة مجموعة القواعد القانونية المتعلقة ببنية الدولة و طريقة ممارسة السلطة السياسية فيها، فهو يشمل كل ما يتصل بالدولة في أساسها و تكوينها و شكلها وعلاقتها بمواطنيها و وبيان حقوق المواطنين وواجباتهم .

وقد كان من بين أسباب ظهور القضاء الدستوري الصراع القائم بين البرلمانات والملوك، ثم تطور مع الثورة الفرنسية ، غير أن القضاء الدستوري بمعناه الحديث قد ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1803 في القرار المشهور بقرار « ماديسون ضد ماريوي » والذي ظهر في عهد « مارشال» رئيس المحكمة العليا، حيث أقر القضاء بالإجماع ضرورة احترام القانون الدستوري على الرغم من عدم وجود نص في الدستور يمنح للمحكمة هذا الاختصاص، ثم بعد ذلك انتقل هذا الأمر إلى دول أمريكا اللاتينية ثم تحول إلى أوروبا عقب الحرب العالمية الأولى، لينتشر بعد ذلك، موجة القضاء الدستوري، في مجموع دول العالم.

مفهوم واختصاصات القضاء الدستوري

القضاء الدستوري، حسب ميشيل فرومان، يعني ممارسة وظيفة قضائية من قبل هيئة مستقلة لها صفة محكمة.

تُعدُّ المحكمة الدستورية (أو المجالس الدستورية حسب تسميات الدول) من أهم محاكم الجهاز القضائي، نظراً إلى أهمية الاختصاصات المنوطة بها، وفي مقدمتها الرقابة القضائية على دستورية القوانين والأنظمة واللوائح، ما يجعلها «الحارس الأمين» على مبدأ «سمو الدستور» الذي يعد بمثابة أهم المبادئ في القانون الدستوري، بحيث لا يجوز أن يخالف تشرع أدنى لتشريع أعلى ، سواء التشريعات الصادرة من السلطة التشريعية ، أو تلك الصادرة من السلطة التنفيذية ، حيث لا ينبغي، وفق مبدأ التدرج التشريعي، فإذا خالف التشريع الأدنى التشريع الأعلى، يقضى بعدم دستوريته ويصبح في حكم الغير موجود.

فضلا عن اختصاص القضاء الدستوري بوضع الأسس والضمانات لحماية حقوق الإنسان والحريات العامة من خلال رقابتها الدقيقة على التشريعات التي تصدر. والاضطلاع بمهام تفسير النصوص القانونية السارية و التي يصعب على القضاء تفسيرها أو تنزيلها ديمقراطيا، والعمل على التطبيق السليم للقانون وتوحيد الاجتهاد القضائي و تطوير دور القانون بطريقة تدعم المؤسسات الديمقراطية. كما ينظر القاضي الدستوري في الطعون المتعلقة بصحة نتائج جميع الاستحقاقات الانتخابية. ومن أجل هذا كله اعتبر القضاء الدستوري منارة للقانون وحامٍ للحريات وضامن لتوزيع السلط.

بعد هذه التوطئة في التاريخ والمفهوم والاختصاصات، نصل إلى موضوع المقال الذي هو القضاء الدستور في ضوء الدستور المغربي السادس.

المغرب: الغرفة الدستورية، المجلس الدستوري والمحكمة الدستورية

فالمغرب لم يحد عن هذا المسلسل التطوري للقضاء الدستوري، حيث نص المشرع في أول دستور عرفه المغرب في سنة 1962، على إنشاء الغرفة الدستورية بالمجلس الأعلى. غير أن الصعوبات والمشاكل التي صاحبت هذه الغرفة دفعت بدستور 1992 إلى إلغائها وتعويضها بمجلس دستوري شبيه من حيث الاختصاصات للمجلس الدستوري الفرنسي لكنه يختلف عنه من حيث التركيبة والهيكلة. وهو ما جعل المجلس المذكور بتعرض لكثير من النقد والاعتراض، فحاولت اللجنة التي عينها الملك برئاسة "عبد اللطيف المنوني" سنة 2011 أن تتجاوز، بخصوص مسألة القضاء الدستوري، تلك الاعتراضات، عبر تغيير اسم المجلس الدستوري باسم المحكمة الدستورية. فهل المحكمة الحالية، والتي لم تتشكل بعد، ترقى إلى مفهوم القضاء الدستوري الديمقراطي كما هو متعارف عليه عالميا؟.

سلبيات المحكمة الدستورية:


نهدف خلال هذه الفقرة تسليط الضوء على تركيبة المحكمة الدستورية التي نص عليها الدستور الحالي، دون الحديث عن اختصاصات المحكمة ولا عن أدوارها، التي لا تبعد كثيرا عن ما هو منصوص عليه في باقي الدساتير. لكن هذا الدور وهذه الاختصاصات التي تتماشى مع ما هو منصوص عليه في الدساتير الديمقراطية لا يمكن أن تنهض به المحكمة الدستورية المغربية قياسا إلى تركيبتها المقررة في نص الدستور الجديد. إذ أن الفرضية، التي نحاول أن ندافع عنها هنا، تتمثل في كون تركيبة المحكمة الدستورية تفرغ المحكمة الدستوري من محتواها الذي خصصت له، بل لن تلعب المحكمة الدستورية غير ما تريده السلطات المهيمنة عليها من خلال التعيين. كيف ذلك؟

ينص الدستور السادس للمملكة في فصله 130 على ما يلي « تتألف المحكمة الدستورية من اثني عشر عضوا، يعينون لمدة تسع سنوات غير قابلة للتجديد، ستة أعضاء يعينهم الملك، من بينهم عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، وستة أعضاء يُنتخب نصفهم من قبل مجلس النواب، وينتخب النصف الآخر من قبل مجلس المستشارين من بين المترشحين الذين يقدمهم مكتب كل مجلس، وذلك بعد التصويت بالاقتراع السري وبأغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم كل مجلس » فالملاحظ أن المشرع، ورغم أنه غيَر اسم المجلس الدستوري إلى المحكمة الدستورية، إلا انه حافظ على نفس تركيبة هذه المحكمة باستثناء واحد، وهو أن من بين الأعضاء الستة الذين يعينهم الملك يوجد عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، وهذا التغيير الطفيف لا يغير من كون الحصة الأكبر في التعيين تعود للملك بما في ذلك تعيين رئيس المحكمة، وأما باقي الأعضاء (النصف) فهم موزعون بين 3 أعضاء ينتخبهم مجلس النواب و3 أعضاء ينتخبهم مجلس المستشارين.
فأن يعين الملك نصف أعضاء المحكمة بما فيهم الرئيس، ويترك النصف الباقي لمجلسي البرلمان، فإن ذلك يتنافى والأصول الديمقراطية التي تعطي الأولية والأهمية في تنصيب أعضاء المحاكم الدستوري إما إلى السلطة التشريعية أو عبر الانتخاب، وهو ما يفرغ فكرة القضاء الدستوري من محتواها المحدد في حماية الحقوق والحرس على استقلالية السلطات بشكل لا تسيطر فيه السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، كما هو الحال في التشريع الدستوري المغربي. فالملكية في المغرب هي ملكية تنفيذية وليست برلمانية، كما أن الملك شخص يسود ويحكم، وبالتالي يمارس صلاحيات رئيس الدولة بكامل تجلياتها، ولهذا عندما يترك له حق تعيين نصف أعضاء المحكمة الدستورية، بما فيهم الرئيس، فذلك يكرس هيمنة المؤسسة الملكية من خلال المحكمة الدستورية التي لا يمكنها، بحسب تركيبتها الحالية، أن تلعب دور حامي الدستوري، لأنها ببساطة لا يمكن أن تكون كثلة منسجمة، وإنما المنسجم فيها هو الكتلة التي يعينها الملك، بينما تؤثر الأغلبيات النيابية في تعيين باقي أعضاء المحكمة. فإذا علمنا أن مجلس المستشارين منتخب بطريقة غير مباشرة في ظل ما يعرف بالجهوية الموسعة، فإن فرضية أن يكون رئيسا المجلسين من نفس الحزب نادرة، مما يحول دون أن يكون للأعضاء الستة الذين يشكلون -إلى جانب من عينهم الملك- تركيبة المحكمة، رأي موحد حول القضايا المطروحة عليهم.( وما يعرفه البرلمان المغربي الحالي يؤكد ذلك، حيث رئيس مجلس المستشارين ينتمي إلى حزب معارض، بينما ينتمي رئيس مجلس النواب إلى الأغلبية)

فحتى إذا افترضنا انسجام النصف الذي ينتخبه البرلمان، رغم أن ذلك مستبعد في ظل الثنائية المجلسية غير المتكافئة وفي ظل المتغيرات السياسية ونظام "العقلنة" والتحكم الذي يسلكه النظام السياسي المغربي، فإن القرار الأخير سيكون دوما للنصف الذي يعينه الملك على أساس أن صوت الرئيس المعين من قبل الملك سيكون مرجحا في حالة تعادل الاصوات.

ولكي نوضح الأمر أكثر يمكننا العودة إلى الدستور المقارن وخاصة الدستور الفرنسي الذي يمتح منه الدستور المغربين والدستور الاسباني حيث يسود النظام الملكي. ففي الدستور الفرنسي نجد أن المجلس الدستوري يتكون من 9 أعضاء يعين ثلثاهم البرلمان ويعين رئيس الجمهورية الثلث المتبقي ( مع تقييدات على هذا التعيين من قبل الرئيس كما ينص على ذلك الفصل 56 من الدستور)، هو ما يضمن استقلالية المجلس الدستوري عن السلطة التنفيذية و عن السلطة التشريعية، لأن الأخيرة برأسين يستحيل بينهما التواطؤ بالنظر إلى تركيبة مجلس الشيوخ. وأما الدستور الاسباني فتتكون المحكمة الدستورية من 12 عضوا ، أربعة أعضاء يختارهم مجلس النواب وأربعة يختارون من مجلس الشيوخ بالانتخاب بأغلبية ثلاثة أخماس واثنين تختارهما الحكومة واثنين يختارهما مجلس القضاء. بينما ينتخب مجلس الشيوخ الأمريكي جميع أعضاء المحكمة العليا باقتراح من رئيس الدولة.

من هنا نتلمس الفرق الكبير بين التجارب المقارنة، التي تكرس الأفضلية في تعيين أعضاء القضاء الدستوري للبرلمانات المنتخبة شعبيا على حساب السلطة التنفيذية، وبين الدستور المغربي الذي يجعل من المؤسسة الملكية (السلطة التنفيذية) المهيمن الأساس على تركيبة المحكمة الدستورية، وهو ما يشكل عائقا أمام استقلالية هذه المحكمة، وإمكانية نهوضها بالاختصاصات الموكلة إليها. فالقاضي الدستوري، ورغم ادعائه الاستقلالية سيضل دائها خاضعا للجهة التي عينته والتي بإمكانها أن تغيره.

إذ أن الدستور المغربي ينص في الفقرة الثالثة من الفصل 130 على: « يتم كل ثلاث سنوات تجديد ثلث كل فئة من أعضاء المحكمة الدستورية » عكس أغلب الدساتير المقارنة التي يُعين فيها القاضي الدستوري مدى الحياة وهو ما يضمن استقلاليته عن الجهة التي كان لها فضل تعيينه أو انتخابه. كما سكت الدستور المغربي عن مدة العضوية داخل المحكمة الدستورية ( ينص الدستور الفرنسي على 9 سنوات غير قابلة للتجديد ) وهو ما يؤكد قولنا في أن المشرع يحاول أن يجعل مصير عضو المحكمة الدستورية بيد الجهة التي عينته ، فلا هو في وضع العضو مدى الحياة ولا هو في وضع العضو لمدة محددة يعرف أنه لن يتجاوزها مهما قدم من " خدمات" للجهة التي عينته وبالتالي الاحتكام إلى ضميره دون خوف من عدم التجديد.

ومن بين السلبيات كذلك، تلك التي جاء بها الدستور الحالي بخصوص نوعية الأشخاص الذين يحق لهم شغل منصب قاضي دستوري « يختار أعضاء المحكمة الدستورية من بين الشخصيات المتوفرة على تكوين عال في مجال القانون، وعلى كفاءة قضائية أو فقهية أو إدارية، والذين مارسوا مهنتهم لمدة تفوق خمس عشرة سنة، والمشهود لهم بالتجرد والنزاهة » الفضل 130. وهو وضع تكون فيه عضوية المحكمة الدستورية غير مقتصرة على فئة القضاة، كما هو حاصل في جميع التجارب المقارنة، وإنما من حق كل من ارتأت فيه الجهة المعينة أو المنتخبة الأهلية لشغل هذا المنصب. وهو ما يكرس الوضع غير المستقل للقاضي الدستوري والذي هو هنا منتحلٌ لصفة غير قانونية ولا يحق له الاتصاف بها بدون موجب قانوني وشرعي وعلمي.

ومن الغرائب التي اختص بها الدستور المغربي، نجد أن المحكمة الدستورية يمكنها أن تبث في القضايا دون اكتمال نصابها، حيث نص الدستور في الفصل 130 على ما يلى « إذا تعذر على المجلسين أو على أحدهما انتخاب هؤلاء الأعضاء، داخل الأجل القانوني للتجديد، تمارس المحكمة اختصاصاتها، وتصدر قراراتها، وفق نصاب لا يُحتسب فيه الأعضاء الذين لم يقع بعد انتخابهم » وبالتالي يمكن، في حالة وجود أعضاء المحكمة المنتخبين من قبل البرلمان لسبب من الأسباب، للمحكمة أن تصدر قراراتها دون انتظار توفر النصاب القانوني، والأغرب في الموضوع أن هذا الحق الذي أعطي للقضاة، المعينين من قبل الملك، لم يعطى للشق المنتخب من قبل البرلمان، وبالتالي لا يمكن للمحكمة أن تصدر قراراتها إذا ما تعذر على الملك تعيين الأعضاء الستة الذين هم من اختصاصه، وهو ما يشكل حيفا وعدم تساوٍ، كما يكرس الهيمنة الملكية على المحكمة الدستورية ويجعل منها أداة في يد السلطة التنفيذية توظفها كما تشاء. ( رب قائل: إن هذا اتهام مسبق للأعضاء الذين يعينهم الملك بالانحياز إلى جانب السلطة التنفيذية وليس إلى جانب القانون. ونحن، وإذ لا نفترض ذلك بالضرورة، فإننا نحيل القارئ إلى قرارات المجلس الدستوري، والذي لا يختلف عن المحكمة الدستورية إلا من حيث الاسم والقاضي المقترح من المجلس العلمي الأعلى، التي لا وجود فيها لأي قرار لا يتماشى ورغبة المؤسسة الملكية، وخير مثال على ذلك مشروع قانون توزيع الصلاحيات بين الملك ورئيس الحكومة الذي قضى المجلس الحالي بعدم دستوريته، ليس لأنه القانون ينقص من صلاحيات رئيس الحكومة ويقوي صلاحيات الملك ، وليس لأن القانون لم يحدد المعايير التي استند عليها لتحديد ماهو استراتيجي وماهو غير استراتيجي من تلك المؤسسات، وإنما عدم دستوريته تكمن في تضمنه عبارة "يصادق" في الوقت الذي يجب أن تستبدل تلك العبارة ب "يعين". وهذا هو العيب الوحيد في هذا القانون التنظيمي حسب المجلس الموقر).

*باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة

الرقابة القضائية علي دستورية القوانين في بعض الدول الأوربية


تمهيد :
إن الفيلسوف الاغريفي ارسطو في كتابه " السياسة " قد أشار ضمناً إلى فكرة تدرج القواعد القانونية عندما ذهب إلى أن القوانين المؤسسة للدولة “ lois fondatrices de lecast “ لا يجوز تعديلها بواسطة القوانين العادية “ lois ordinaries “ فإذا وصلنا إلى جان جاك – رو سو فانه مع اعتبار أن " القانون loi " هو التعبير عن الإدارة العامة “ expression de la volonte generale " إلا انه يذهب مع ذلك إلى أن قواعد العقد الاجتماعي أو ما يمكن أن يقال له القوانين الأساسية “ lois fondemntas “ لا يمكن أن تنشا أو تعديل إلا بالإجماع علي اعتبار أن الأغلبية لا تكفي لإنشاء القواعد القانونية الأساسية .
وفي هذا أيضا إدراك لفكر تدرج القواعد القانونية التي هي إحدى الأسس التي بنيت عليها فكرة الرقابة علي دستورية القوانين .
ولكن الإسهام الفقهي المباشر والواضح في قاعدة تدرج القواعد القانونية وتوالدها من بعضها . . كان يجب أن ينتظر حتى يجئ الفقيه النمساوي الكبير هانزكلس .
وتقوم نظرية كلسن علي أن القانون يتوالد من أعلا إلى الأدنى ، ففي القمة يأتي القانون الدولي العام ، وعندما يعترف القانون الدولي العام بالدولة يعتبر لها بالحق في أن يكون لها دستور ، والدستور بدوره هو أساس القانون ، والقانون أساس اللائحة ، واللائحة أساس القرار الفردي .
وكل درجة قانونية مرتبطة بالدرجة التي تعلوها باعتبارها نتاج لها وبالدرجة التي تدنوها باعتبارها منتجة لها (21) .
ويعتبر كلسان هو الأب الروحي للدستور النمساوي الصادر عام 1920 وبالتالي للمحكمة الدستورية النمساوية التي نص عليها ذلك القانون . بل أن البعض يذهب إلى أن كلسن يمكن أن يعتبر الأب الروحي لكل المحاكم الدستورية الأوربية والتي نبدأ الآن بدراسة موجة لبعضها .
أولا : المحكمة الدستورية في النمسا :
كانت " مدرسة فيينا " بزعامة كلسن وراء إنشاء هذه المحكمة لكي تحمي تدرج القواعد القانونية من أن تعتدي قاعدة ادني علي قاعدة اعلي .
وقد أنشئت المحكمة النمساوي منذ عام 1920 م وكان لها اختصاص شامل ومانع ، بمعني انها كانت تباشر رقابة مركزية علي دستورية القوانين ولا يجوز لغيرها من المحاكم أن تتصدى لهذا الرقابة ، وهذه الرقابة المركزية تأثرت بها كثير من المحاكم الدستورية التي نشأت بعد ذلك ، وتتكونا لمحكمة الدستورية في النمسا من 14 قاضياً ، وستة قضاة مناوبين ، وتشارك السلطات التشريعية والتنفيذية في اختيار قضاة المحكمة ، والقانون وان كان يتطلب في قضاة المحكمة الدستورية أن يكونوا من ذوي الخبرة القانونية الطويلة إلا انه لم يشترط سناً معيناً كحد ادني للتعيين ( علي عكس الحالة في ألمانيا مثلا حيث يشترط أن لا يقل عمر القاضي الدستوري عن أربعين سنة ) .
ويستمر القاضي الدستوري في عمله ما دام قد عين فيه دون إمكانية نقله أو فصله أو تغيير عمله ، وذلك إلى أن يبلغ السبعين عاماً ، وهذا في حد ذاته ضمان لاستقلال القاضي إلى جوار وجود نظام خاص بحصانة القضاة وعدم قابليتهم للعزل أو للمحاسبة من خارج المحكمة التي ينتمون إليها ، والمحكمة الدستورية النمساوية – شانها في ذلك شان الكثير من المحاكم الدستورية – نص عليها الدستورية بنفسه ، ومن ثم فان وجودها واختصاصها ليس خاضعاً للمشرع العادي الذي قد تتغير اغلبيته وتتغير بالتالي اتجاهاته ، وفي هذا ضمان أخر لاستقلالية المحكمة الدستورية من ناحية واعتبارها مؤسسة دستورية من ناحية أخرى شانها في ذلك شان البرلمان والحكومة .
وقد جاء النص علي المحكمة الدستورية النمساوية في المادة 174 من الدستور الفيدرالي ، ويختار قضاة المحكمة من بين القضاة أو أساتذة القانون أو المحامين .
ولا تعقد المحكمة جلساتها بصفة مستمرة ، وانما تعقدها في الشهور التالية : مارس ، يونيه ، سبتمبر ، ديسمبر .
ويعاون القضاة في دراسة القضايا " مقررون دائمون " raporteurs permanents " وهم الذين يقابلون عندنا هيئة مفوضي المحكمة كما سنري عندما ندرس المحكمة الدستورية في مصر .
ولما كثرت القضايا أمام المحكمة أنشئت دائرة لفحص الطعون حتى لا يحال إلى المحكمة إلا لطعون الجدية ، وقد استطاعت هذه الدائرة التي أنشئت منذ عام 1981 عندما كثرت أعباء المحكمة أن تخفف عنها جزءاً من هذا العبء .
والمحكمة النمساوية وان كانت تباشر أساساً رقابة لاحقة علي دستورية القوانين التي أصدرها البرلمان فعلاً فان الدستور عهد إليها باختصاص وقائي فيما يتعلق بالقوانين التي تنظم العلاقة بين دولة الاتحاد والدول الأعضاء ، وهذا وضع خاص بالدول الفيدرالية ، وفي هذه الحالة يعرض مشروع القانون المتعلق بهذه العلاقة علي المحكمة قبل إصداره لتقرر مدي دستوريته .
وأحكام المحاكم الدستورية في النمسا لها حجية مطلقة في مواجهة الإفراد ومواجهة السلطات العامة وهي الحجية التي يقال لها “ erga omnes “ وان كان البعض يري أن هذه الحجية المطلقة تتعلق بالأحكام الصادرة بعدم الدستورية فقط ، أما الأحكام الصادرة برفض الدعوى فان حجيتها تقتصر علي أطراف القضية التي صدر فيها الحكم (22) .
أما بالنسبة لموضوع الأثر الرجعي أو الأثر المباشر للحكم الصادر بعدم دستورية قانون من القوانين . . فقد اختار المشرع الدستوري حلولاً عملية لهذه المسالة الشائكة ، والتي أثيرت أخيرا عندنا في مصر بخصوص قوانين الضرائب .
والأصل أن الحكم بعدم الدستورية يبدا نفاذه من يوم نشره ولا يرتد أثره إلى الماضي . ( م 139 – 140 من الدستور ) .
إلا أن المشرع الدستوري في تعديل عام 1975 أعطى للمحكمة الدستورية سلطة تقديرية تستطيع بمقتضاها أن تعطي للحكم بعدم الدستورية أثرا رجعياً تقدر مداه .
كما تستطيع المحكمة أن تعيد إلى الحياة قانوناً عدله أو ألغاه القانون الذي حكم بعدم دستوريته ، هذه لمحة سريعة عن المحكمة الدستورية النمساوية وهي أو محكمة دستورية أنشئت في أوروبا (23) .
ثانياً : المحكمة الدستورية الفيدرالية الألمانية (24) :
وضع الدستور الألماني أو القانون الأساسي كما يسمونه أحياناً في 23 مايو 1949 وتبني ايديولوجية ليبرالية غربية بالكامل ورفض كل صور العنصرية والشوفانية – التعصب القومي – وكل صور الحكم الشمولي من ماركسية في اليسار إلى النازية والفاشية في اليمين ، واقام الدستور نظاماً برلمانياً يقوم علي مجلسين . . مجلس نواب يمثل الشعب كله ، ومجلس للولايات الألمانية . . ونص أيضا علي إنشاء محكمة دستورية عليا تكون بمثابة الحارس علي الدستور – أو القانون الأساسي – أو بمثابة الموازن بين السلطات .
وصدر قانون المحكمة الدستورية في 12 مارس عام 1951 .
وسندرس هذه المحكمة علي ضوء ما ورد بشأنها من نصوص في الدستور وفي القانون الخاص بإنشائها .
(أ) كيفية تكوين المحكمة :
يقوم كل مجلس من المجلسين باختيار ثمانية قضاة وبذلك يكون مجموع قضاة المحكمة ستة عشر عضواً .
والمحكمة تتكون من دائرتين لكل منهما اختصاصها المستقل عن الدائرة الأخرى .
وكل دائرة تتشكل من ثمانية أعضاء .
وكل مجلس من مجلس البرلمان يختار أربعة من هؤلاء الأعضاء ويختار المجلس الآخر الأربعة الآخرين .
والمحكمة تتكون من قضاة ، ورغم اختيارها وفقاً لبعض المعايير السياسية . . فان الاختيار يجب أن يتجه إلى كبار رجال القانون العام ممن لهم خبرة قضائية طويلة وممن بلغوا أربعين عاماً .
وفي البداية لم يكن للقضاة سن تقاعد إلا انهي تعديل عام 170 نص عام أن يكون سن التقاعد 68 عاماً وعلي أن مدة تعيين القاضي هي اثنتا عشر عاماً غير قابلة للتجديد وتنتهي الولاية حتما ببلوغ سن التقاعد .
وقد أعطى هذا القانون – قانون 1970 – لقضاة المحكمة الحق في إبداء رأي مخالف للأغلبية _ وهو الأمر المأخوذ به في النظام الانجلو سكسوني ) “ des opinioes dissidents “ ، والبرلمان أيضاً بمجلسيه يختار رئيس المحكمة ونائب الرئيس ، ويبقي كل منهما في مكانه حتى بلوغ سن التقاعد .
(ب) طبيعة المحكمة :
المحكمة هيئة قضائية قائمة بذاتها ومستقلة من سائر السلطات الدستورية ، وقد نص علي ذلك الدستور نفسه في مادة 94 :
La cous constitutionnelle est une gunidictio independente, autonome de tous les autres organs constitutionnels de la federation .
ولما كان الدستور نفسه هو الذي نص علي اختصاص المحكمة ولم يترك ذلك للمشرع العادي . . فهذا يعني انه وضع المحكمة من الناحية الدستورية علي قدم المساواة مع سائر السلطات الدستورية الأخرى وفي مقدمتها البرلمان ( رغم أن البرلمان هو الذي يختار الأعضاء ، ولكن مهمته تنتهي تماماً بعد ذلك الاختيار ويتمتع الأعضاء باستقلال كامل ) .
والمحكمة مستقلة تماماً من الناحية المالية والإدارية عن وزارة العدل . وقد نص الدستور الألماني علي أن مقر المحكمة ليس هو العاصمة وانما هي مدينة أخرى صغيرة وهادئة اسمها “ karlseuhe “ حتى يستطيع قضاة المحكمة أن يبتعدوا عن ضجيج الحياة في العاصمة ويتاح لهم الهدوء والتفرغ الكامل لعملهم ، وينص الدستور في المادة 115 منه علي انه في الظروف الاستثنائية وفي حالات الضرورة . . فانه لا يجوز المساس بكيان المحكمة الدستورية أو باختصاصاتها أو بقضائها علي أي نحو .
والمحكمة هي التي تضع النظام الداخلي للعمل بها .
والجمعية العمومية للمحكمة هي وحدها وبأغلبية ثلثي عدد أعضائها التي تملك اقتراح عزل عضو أو وقفه عن العمل في حالات نادرة وخطيرة ، ورئيس الجمهورية يصدر قراره بناء علي قرار المحكمة ، وتختص الجمعية العمومية للمحكمة أيضا بالفصل في حالات الاختلاف أو التنازع بين دائرتي المحكمة ، وهذا اختصاص قضائي .
ولكنها تختص إلى جوار ذلك بتسيير العمل داخل المحكمة .
وقد ظلت المحكمة الدستورية الألمانية بغير لائحة داخلية بعد إنشائها بمدة طويلة تقارب العشرين عاماً ولكن المحكمة بحكم الدستور وبحكم قانونها تستطيع أن تضع قواعد العمل أمامها ، وقد وضعت اللائحة ثم عدلت بعد ذلك وصدرت لائحة جديدة بدا سريانها في أول أكتوبر 1975 ، وتتكون هذه اللائحة – التي أقرتها وأصدرتها الجمعية العمومية للمحكمة – من فصلين . . فصل يتعلق بالتنظيم الداخلي للمحكمة وفصل يتعلق بقواعد الإجراءات المتبعة أمامها .
وقد استفادت لائحة 1975 بحوالي ربع قرن من التجارب التي مرت بها المحكمة في هذا الخصوص .
(ج) اختصاصات المحكمة الدستورية الفيدرالية :
تحدث الدستور نفسه عن اختصاصات المحكمة في المادة 93 منه ، وقد حددت الفقرة الأولى من تلك المادة عدداً من الاختصاصات ثم أضافت بعد هذا التعديل قوها " وتختص المحكمة في الحالات الأخرى التي يعنها الدستوري " وأحالت هذه المادة إلى المواد 18 ، 21 فقرة 2 ، 41 فقرة 2 ، 61 ، 84 فقرة 2 و 88 فقرة 2 ، 99 ، 100 ، 126 من الدستور ، وقد نصت الفقرة الثانية – المادة 93 من الدستور علي أن المحكمة تختص بالموضوعات التي تنص القوانين الفيدرالية علي اختصاصها بها .
وهكذا فان بعض اختصاصات المحكمة الدستورية الألمانية نص عليها الدستور وبعضها نصت عليه قوانين اتحادية .
والواقع أن المحكمة الدستورية الألمانية بهذه الاختصاصات تمارس أثراً واضحاً وقوياً علي الحياة العامة في ألمانيا .
ويمكن رغبة في تبسيط الأمور أن نرجع اختصاصات المحكمة الدستورية إلى اختصاصات أربع كبري يندرج تحتها اختصاصات أخرى ، أما هذه الاختصاصات الأربع فهي :
1 – الاختصاص برقابة دستورية القوانين ، وصور الاختصاص الأصلي – وأحيانا الوحيد – لكثير من المحاكم الدستورية .
2 – الاختصاص برقابة دستورية اللوائح “ norms “ .
3 – الاختصاص شبه الجنائي أو الاختصاص بحماية النظام الدستوري .
4 – اختصاص الفصل في المنازعات التي تثور بين السلطات الدستورية وبعضها .
وسندرس الاختصاص الأول فقط لاتصاله بموضوع الدراسة .
1 – الاختصاص برقابة دستورية القوانين :
وفقاً للمادة 93 من الدستور السابق الإشارة إليها . . فان المحكمة الدستورية الاتحادية تفصل في " حالات النزاع أو الشك في مطابقة قانون اتحادي أو قانون ولاية من الولايات للدستور سواء من ناحية الشكل أو من ناحية الموضوع ، كذلك في حالة النزاع أو الشك في مطابقة قانون ولاية لأي قانون اتحادي أخر " .
ويكون تحريك الدعوى في هذه الحالات بناء علي طلب الحكومة الفيدرالية أو حكومة ولاية من الولايات أو بناء علي طلب ثالث أعضاء مجلس النواب ، أي أن تحريك الدعوى هنا يتم عن طريق السلطات العامة .
هذا وقد أعطى الدستور للمحاكم وهي تنظر قضية من القضايا الحق في الإحالة إلى المحكمة الدستورية إذا ثار لدي المحكمة التي تنظر الموضوع الشك حول دستورية القانون المطلوب منها تطبيقه علي موضوع المنازعة .
وكذلك فان الإفراد العاديين يمكنهم اللجوء إلى المحكمة الدستورية الفيدرالية بأي طريقة : أما برفع الدعوى المباشرة إذا كانت قد انتهكت أحد الحقوق الأساسية المنصوص عليها في بعض مواد الدستور . . مثل المواد من 1 إلى 19 والمادة 20 فقرة رابعة والمواد 33 و 38 ، 101 ، 104 وهنا يكون للأفراد العاديين حق الطعن المباشر أمام المحكمة الدستورية بدعوى أصلية (25) .
كذلك فان للأفراد أن يدفعوا أمام المحاكم التي تنظر قضاياهم بعدم دستورية القانون الذي يراد تطبيقه عليهم والمحكمة هي التي تقدر مدي جدية هذا الدفع فان هي قدرت جديته أوقفت الدعوى وصرحت لصالح المصلحة باللجوء إلى المحكمة الدستورية . كذلك فان الإفراد يستطيعون أن يطعنوا في أحكام المحاكم الصادرة ضدهم أمام المحكمة الدستورية إذا كان الحكم الصادر قد خالف الدستور ، وهنا تكون المحكمة الدستورية العليا بمثابة محكمة نقض أو محكمة الدرجة الأعلى ، وتسمي هذه الرقابة بالرقابة علي مدي دستورية تطبيق القوانين سواء بواسطة المحاكم أو بواسطة الإدارة .
وقد أدى هذا الاتساع في الاختصاص إلى أن امتلأت المحكمة الطعون الدستوري المقدمة من الإفراد ولذلك لجا المشرع عام 1985 إلى تعديل قانون المحكمة الدستورية وأنشأ دوائر لفحص الطعون " وغربلتها " مشكلة من ثلاثة أعضاء وتستطيع هذه الدوائر أن تحكم بعدم قبول الدعوى كما تستطيع أن تحكم أحياناً بعدم الدستورية إذا كان الأمر قد حسمته من قبل المحكمة الدستورية .
وقد استطاعت هذه الطريقة أن تخفف كثيراً من العبء عن عاتق المحكمة نفسها ، حتى لقد قيل أن هذه الدوائر – دوائر فحص الطعون – قد حكمت بعدم قبول اكثر من 90% من طعون الإفراد (26) ، والي جوار الاختصاصات العديدة السابقة فان المحكمة الدستورية الألمانية تختص بالنظر في عدم دستورية الأحزاب السياسية “ linconstitution alite des politiques " إذا كان وجودها مخالفا للأسس الديمقراطية التي جاء بها الدستور ( الأحزاب الشيوعية أو النازية الجديدة ) بان يريد في برامجها أو في اتجاهات أعضائها ما يؤدي إلى تهديد وجود الدولة الألمانية .
وأحكام المحكمة الدستورية في هذا كله هي أحكام قضائية ولا يجوز الطعن فيها بأي طريق من طرق الطعن ولها حجية مطلقة في مواجهة الكافة وفي مواجهة جميع سلطات الدولة (27) .
ومن هذا كله يبين مدي أهمية المحكمة الدستورية الفيدرالية الألمانية ويبين أيضا أن نجاح نظام في بلد معين لا يعني إمكانية نجاحه في أي بلد أخر إذ الأمر يتوقف علي الظروف الموضوعية لكل بلد من سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وعلي قوة الرأي العام ومدي إمكانية في التعبير عن نفسه بحرية وبقوة .
وعلي سبيل المثال فان إعطاء البرلمان حق اختيار أعضاء المحكمة الدستورية – كما هو الحال في ألمانيا – يمكن أن يتحول في بلد أخر إلى نوع من الهزل الذي لا معني له ولا ضمان فيه .
ثالثاً : المحكمة الدستورية الإيطالية :
نص الدستور الإيطالي الصادر في ديسمبر 1947 علي إنشاء محكمة دستورية وذلك في المواد من 134 إلى 137 منه .
ونصت المادة 137 من الدستور علي انه " تنظم بقانون عادي القواعد الأخرى الخاصة بتشكيل المحكمة وبعملها .
وقد صدر قانون المحكمة الدستورية في عام 1953 .
ولم يتم تعيين كافة قضاة المحكمة إلا في نوفمبر 1955 .
وبدأت المحكمة عملها في أبريل 1956 .
ونشير هنا بإيجاز إلى كيفية تكوين المحكمة واختصاصاتها وكيف ينعقد هذا الاختصاص .
(أ) كيفية تكوين المحكمة :
تتكون المحكمة من خمسة عشر قاضياً يعينون لمدة تسع سنوات غير قابلة للتجديد .
ويعين خمسة من هؤلاء القضاة بواسطة البرلمان .
وخمسة منهم بواسطة رئيس الجمهورية .
وخمسة بواسطة الجهات القضائية العليا .
وليس لهؤلاء القضاة سن أقصى لتعيينهم ولكنهم يجب أن يكونوا من يبن طوائف ثلاث : رجال القضاء ، وأساتذة القانون والمحامين .
وقد تغدو آثار خلافات طويلة اختيار القضاة الخمسة الذين يأتون عن طريق البرلمان لوجود صراعات حزبية لا تنتهي في إيطاليا ، وقد كان هذا هو العامل الأساسي في تأخير تكوين المحكمة وانعقادها .
(ب) اختصاصات المحكمة :
نصت المادة 134 من الدستور علي اختصاصات المحكمة الدستورية الإيطالية علي النحو التالي :
- الفصل في المنازعات المتعلقة بالمشروعية الدستورية للقوانين .
- وكذلك الفصل في المنازعات المتعلقة بالتدابير التي لها قوة القانون وذلك فيما بيختص بالدولة والأقاليم .
- وتفصل في المنازعات المتعلقة بالاختصاص بين الدولة وأقاليمها وبين الأقاليم وبعضها .
- وتفصل في الاتهامات الموجهة ضد رئيس الجمهورية والوزراء وفقاً للدستور .
وهكذا جمعت المحكمة بين اختصاص المحكمة الدستورية من ناحية فيما يتعلق بالفصل في دستورية القوانين والإجراءات التي لها قوة القانون وبين محكمة فصل في تنازع الاختصاصات بين الدولة والولايات الداخلة في تكوينها أو يبين هذه الأقاليم وبعضها واخيرا اختصاص محاكمة رئيس الجمهورية والوزراء .
وإذا كانت المسالة الأولى – دستورية القوانين – لها صبغة قانونية بحتة فان المسالتين الأخريين تجعلان المحكمة في قلب الغليان السياسي الذي صاحب الحياة العامة في إيطاليا منذ تخلصها من الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية واختيارها طريق الليبرالية البرلمانية .
(ج) كيف ينعقد اختصاص المحكمة :
يمكن أن ينعقد اختصاص المحكمة بوسيلة الدعوى الأصلية المباشرة ، ويمكن أن ينعقد بوسيلة الإحالة أو بوسيلة الدفع .
الدعوى الأصلية :
الذي يملك تحريك الدعوى الدستورية مباشرة أمام المحكمة الدستورية هم أشخاص القانون العام : الدولة والولايات أو الأقاليم ، وهؤلاء يوجهون دعواهم سواء ضد قانون اتحادي صادر من البرلمان أو قانون صادر من ولاية من الولايات ، ويتصور أن ترفع الدولة دعوي مباشرة ضد قانون صادر من البرلمان الاتحادي أو من برلمان إحدى الولايات ، كذلك يتصور أن ترفع ولاية من الولايات الدعوى المباشرة ضد قانون اتحادي أو قانون صادر من برلمانها هي أو من برلمان ولاية أخرى .
وفي هذه الحالات الزم الدستور أن تصدر المحكمة حكمها خلال شهر من بدء نظر الدعوى ، وقد ظلت هذه الحالات – الطعون بالدعوى المباشرة من قبل أشخاص القانون العام – في الحدود المعقولة علي عكس ما سنري بالنسبة لقضايا الإفراد .
الدفع الفرعي :
الدفع الفرعي هو الوسيلة التي يستطيع بها المواطن العادي أن يطرح موضوع الرقابة علي دستورية القوانين ، وذلك بمناسبة نظر قضية من القضايا يطلب فيها تطبيق معين ويري أحد الأطراف أو كلاهما أن قانوناً أو نصاً من قانون يراد تطبيقه علي النزاع علي حين يري المواطن الذي هو طرف في الدعوى أن هذا القانون أو هذا النص مخالف للدستور ، وعلي المواطن في هذه الحالة أن يبين للمحكمة التي يدفع أمامها اوجه المخالفة للدستور ويبين انه صاحب مصلحة ضحية في هذا الدفع والمحكمة التي تنظر الموضوع تستطيع أن تقبل الدفع بعدم الدستورية إذا رأت انه مبني علي أساس مقبول وعندئذ تحيل الدعوى إلى المحكمة الدستورية لكي تفصل في المسالة الدستورية ولمحكمة الموضوع من ناحية أخرى أن تري أن الدفع غير جدي ولا يستند إلى أساس سليم وعندئذ ترفضه ، ولكن الرفض هنا يخضع لطرق الطعن العادية في الأحكام ، هذا عن حق الإفراد في الدفع بعدم الدستورية .
ولكن المحكمة الدستورية حكمت بجواز أن تدفع الدولة أو الهيئات العامة بمناسبة نظر مقارنة من المنازعات بعدم دستورية القانون المراد تطبيقه علي تلك المنازعة مع انه كان للدولة أو لأقاليمها أن تطعن بالدعوى المباشرة ضد هذا القانون فور صدوره ، وكان المحكمة أجازت في هذه الحالة طريقة الدفع .
طريق الإحالة :
يجوز لمحكمة من المحاكم وهي تنظر دعوي من الدعاوى أن تتشكك في دستورية القانون المطلوب تطبيقه علي واقعة النزاع ، والمحكمة هنا لا تستطيع أن تقضي بعدم الدستورية أو تمتنع عن تطبيق القانون الذي تشكك في عدم دستوريته وانما هي تملك أن تحيل ذلك الأمر إلى المحكمة الدستورية لكي تفصل في مدي دستورية أو عدم دستورية القانون أو النص محل الشك .
هذه هي الطرق الثلاث التي ينعقد بها اختصاص المحكمة الدستورية الإيطالية .
والمحكمة الدستورية في إيطاليا هي محكمة قضائية بكل معني الكلمة ، وقضاتها يتمتعون بكل ضمانات القضاء واستقلالهم ، وأحكامها لها حجية مطلقة ولا يجوز الطعن في أحكام بأي طريق .
ومع كون أحكام المحكمة لها حجية قبل أجهزة الدولة وملازمة للمحاكم إلا أن المحكمة الدستورية نفسها تستطيع أن تعدل عما سبق أن قضت به (28) .
كذلك فان أحكام المحكمة الدستورية برفض قرارات الإحالة الصادرة من محاكم الموضوع ليس لها قوة الأمر المقضي كما انها لا تذكر هنا رفض الإحالة أن القانون دستورية “ la loi ncet pas contraire “ .
وهذا يجعل الباب مفتوحاً لطعون بعدم الدستورية في نفس الموضوع .
والحقيقة أن عدد الدعاوى المنظورة أمام المحكمة وصل حداً توشك المحكمة أن تعجز معه عن القيام بمهامها مما أدى بالفقه في إيطاليا والمستشارين إلى التفكير في كيفية تخفيف الأعباء عن المحكمة حتى تتمكن من القيام بدورها الخطير (29) .
بهذا نكون قد انتهينا من هذه الإشارات الموجزة إلى بعض صور عدم الدستورية في العالم الغربي ، وقد يحسن أن نشي إلى بعض التجارب العربية في هذا الموضوع قبل أن نبدأ دراستنا عن القضاء الدستوري في مصر .
بعض التجارب العربية في رقابة الدستورية
يحسن بنا أن ندرس تجربة عربية من المشرق العربي ، وأخري من المغرب العربي فيما يتعلق بالرقابة علي دستورية القوانين .
وقد اخترنا تجربة الكويت من ناحية ، وتجربة المغرب من ناحية أخرى . . والسبب في اختيار هاتين التجربتين . . انهما تجربتان مختلفتان . . واحدة تأخذ بنظام المحكمة الدستورية – الكويت – والثانية تأخذ بنظام المجلس الدستوري – المغرب .
أولاً – المحكمة الدستورية في الكويت :
ينص الدستور الكويتي في المادة ( 173 ) منه علي ما يلي :
" يبين القانون الجهة القضائية التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح ويبين صلاحياتها والإجراءات التي تتبعها ، ويكفل القانون حق كل من الحكومة وذوي الشأن في الطعن لدي تلك الجهة في دستورية القوانين واللوائح ، وفي حالة تقرير الجهة المذكورة عدم قانون أو لائحة يعتبر كان لم يكن " . .
وقد جاء في المذكرة التفسيرية للدستور تعليقا علي المادة ( 173 ) ما نصه " . . اثر الدستور أن يعهد بمراقبة دستورية القوانين ( واللوائح ) إلى محكمة خاصة يراعي في تشكيلها وإجراءاتها طبيعة هذه الجهة الكبيرة . . بدلا من أن يترك ذلك لاجتهاد كل محكمة علي حدة مما قد تتعارض معه الآراء في تفسير النصوص الدستورية أو يعرض القوانين ( واللوائح ) للشجب دون دراسة لمختلف وجهات النظر والاعتبارات . . فوفقا لهذه المادة يترك للقانون الخاص بتلك المحكمة الدستورية مجال إشراك مجلس الأمة بل والحكومة في وضع التفسير القضائي الصحيح لاحكام القوانين وفي مقدمتها الدستور قانون القوانين " .
والذي يستفاد من نص الدستور ومن المذكرة التفسيرية . . أن الدستور اختار أن يعهد بالرقابة علي دستورية القوانين واللوائح إلى " جهة " قضائية واختار أن يجعل الرقابة مركزية في يد هذه الجهة وحدها دون غيرها .
ورغم أن الدستور الكويتي قد صدر في 11 نوفمبر 1962 م . . فان قانون إنشاء المحمكة الدستورية قد تأخر عن ذلك أحد عشر عاما . . حيث صدر القانون رقم 14 لسنة 1973 م بإنشاء المحكمة الدستورية في 9 يونيه 1973 م .
وقد نصت المادة الأولى من ذلك القانون علي أن " . . تنشأ محكمة دستورية تختص دون غيرها بتفسير النصوص الدستورية وبالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح وفي الطعون الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة أو بصحة عضويتهم ، ويكون حكم المحكمة الدستورية ملزما للكافة ولسائر المحاكم " .
ويلاحظ أن قانون الإنشاء اتجه إلى صيغة " المحكمة " وليس " الجهة " كما عبر الدستور ، وفي تقديري أن الدستور عندما اختار لفظ " جهة قضائية " . . كان يقصد إلى أن لا يقتصر تشكيل المحكمة علي القضاة وحدهم وانما أجاز الدستور أن تشارك الحكومة ومجلس الأمة في اختيار أعضاء المحكمة أو بعضهم ومع ذلك فان اتجاه القانون إلى " المحكمة " في بلاد مثل بلادنا قد يكون اكثر معقولية واكثر تحقيقا للحيدة .
وتؤلف المحكمة الدستورية من خمسة مستشارين يختارهم مجلس القضاء بالاقتراع السري كما يختار عضوين احتياطيين . . ويشترط أن يكونوا من الكويتيين ويصدر بتعيينهم مرسوم .
ويفهم من نصوص قانون المحكمة الدستورية أن هؤلاء المستشارين الخمسة ليسوا متفرغين تماما لعملهم في المحكمة الدستورية ، وانما هم يقومون بوظيفتهم الدستورية إلى جوار عملهم الأصلي باعتبارهم أعضاء بدائرة التمييز أو محكمة الاستئناف .
وهكذا . . فان الأصل في مستشاري المحكمة الدستورية انهم – أصلا – مستشار في دائرة التمييز أو في محكمة الاستئناف ، وان مجلس القضاء يختارهم للقيام بوظيفة الرقابة القضائية الدستورية وسائر الاختصاصات الأخرى التي جاءت في القانون إلى جوار عملهم في القضاء العادي سواء في الاستئناف أو النقض .
اختصاصات المحكمة الدستورية :
الذي يهم من نص الدستور – م 173 – أن المحكمة تختص في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح .
ولكن الدستور أجاز لقانون إنشاء المحكمة أن يضيف إليها اختصاصات أو في . . وبالفعل فانه وفقا للمادة الأولى من قانون إنشاء المحكمة . . فأنها تختص .
(أ) بتفسير النصوص الدستورية .
(ب) الفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح .
(ج) الفصل في الطعون الانتخابية الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة .
(د) الفصل في صحة عضوية أعضاء مجلس الأمة .
وحسناً فعل المشرع الكويتي إذ عهد إلى جهة قضائية بالفصل في الطعون الانتخابية وفي صحة عضوية أعضاء البرلمان بدلً أن يترك ذلك للبرلمان نفسه وهو جهة سياسية يغلب عليها الهوى والانحياز اكثر من الحيدة والموضوعية التي تتوافر في الجهة القضائية .
كيفية انعقاد اختصاص المحكمة الدستورية :
اختار المشرع الكويتي أن يكون انعقاد الاختصاص للمحكمة الدستورية حينا بطريق الدعوى الأصلية وحينا أخر بطريق الدفع .
أما طريق الدعوى الأصلية . . فقد أباحه المشرع لإحدى جهتين : مجلس الأمة أو مجلس الوزراء . . وهذا يعني أن الحكومة تستطيع أن ترفع دعوي دستورية أصلية ومباشرة أمام المحكمة الدستورية طاعنة في قانون أصدره مجلس الأمة حتى رغم موافقة الأمير عليه .
كذلك ومن ناحية أخرى . . فان القانون أعطى مجلس الأمة الحق في رفع دعوي دستورية مباشرة أمام المحكمة الدستورية طاعنة في قانون أصدره مجلس الأمة حتى رغم موافقة الأمير عليه .
كذلك ومن ناحية أخرى . . فان القانون أعطى مجلس الأمة الحق في رفع دعوي دستورية مباشرة أمام المحكمة ، ولكن للطعن في ماذا ؟ هل تصور أن يطعن مجلس الأمة بعدم دستورية قانون قام هو بإقراره . . ثم صدره الأمير ؟ .
من الصعب تصور ذلك . . ولو أن القانون أباح لعدد محدود من أعضاء المجلس الحق في هذا الطعن المباشر لتصورنا أن الأقلية التي لم توافق علي القانون يكون من حقها الطعن بعدم دستوريته ، ولكن هذا الفرض غير وارد حيث أن النص يقول . . إن الطعن يتم " بطلب من مجلس الأمة " وليس بطلب من عضو أو عدد من أعضائه ، ومفهوم هذا أن المجلس – بصفته – هو الذي يتقدم بطلب الحكم بعدم الدستورية ، والمتصور والحالة هكذا أن يقتصر هذا الحق علي الطعن في المراسيم بقوانين وفي اللوائح .
أما طريق الدفع . . فقد أعطاها المشرع لإفراد الناس الذين يتقاضون أمام المحاكم ويقدرون أن أقضيتهم سيطبق عليها قانون أو نص في قانون يرون انه مخالف للدستور فيقومون بالدفع أمام المحكمة التي تنظر الموضوع بعدم دستورية نص القانون أو المرسوم أو اللائحة المقصود تطبيقه عليهم .
وهذا الدفع يخضع لتقدير محكمة الموضوع . . فان هي قدرت أن الدفع جدي أوقفت نظر القضية وأحالت الأمر إلى المحكمة الدستورية للفصل فيه .
وهناك وسيلة أخرى لعقد اختصاص المحكمة الدستورية وهي طريقة الإحالة من محكمة الموضوع إلى المحكمة الدستورية من تلقاء نفسها – أي محكمة الموضوع – إذا غم عليها الأمر وتشككت في دستورية قانون أو نص في قانون أو مرسوم أو لائحة يراد منها تطبيقه علي موضوع النزاع وتستشعر المحكمة أو تتشكك في أن النص غير دستوري . . عندئذ تحيل محكمة الموضوع الأمر إلى المحكمة الدستورية صاحبة الاختصاص وحدها في الفصل في المنازعات الدستورية .
ولكن .. ماذا إذا قررت محكمة الموضوع التي دفع أحد الأطراف أمامها بعدم دستورية نص أن هذا الدفع غير جدي ولم تستجب له ولم تفحل الأمر إلى المحكمة الدستورية . . هل ينتهي الأمر عند هذا الحد ؟
عندنا في مصر – كما سنري فيما بعد – يستطيع صاحب الدفع أن يستأنفه بل وان يصل به إلى محكمة النقض .
وقد اختار المشرع الكويتي طريقا أخر بان انشأ داخل المحكمة الدستورية من بين أعضائها لجنة اسماها " لجنة فحص الطعون بالمحكمة الدستورية " وشكلها من رئيس المحكمة واقدم اثنين من المستشارين . . وعهد إليها بالفصل في الطعون التي يرفعها ذوو الشأن من الإفراد الذي قدرت محاكم الموضوع عدم جدية ما أبدوه من دفوع .
تقول الفقرة الثانية من المادة الرابعة من قانون إنشاء المحكمة " . . ويجوز لذوي الشأن الطعن في الحكم الصادر بعدم جدية الدفع وذلك لدي لجنة فحص الطعون بالمحكمة الدستورية في خلال شهر من صدور الحكم المذكور . . وتفصل اللجنة المذكورة في هذا الطعن علي وجه الاستعجال " .
ولجنة فحص الطعون إذ تختص بنظر هذه الطعون . . فأنها بذلك تحجب المحاكم من الدرجة الأعلى بالنسبة للمحكمة التي حكمت بعدم الجدية من النظر في هذه الطعون وهي بصدد النظر في استئناف مرفوع أمامها .
وفي ذلك قالت المحكمة الدستورية في أسباب حكمها الصادر بتاريخ : 21/6/1994 م في القضية رقم (2) سنة 1994 م دستوري (30) .
" . . لما كان ذلك وكانت محكمة الموضوع قد قضت في أول درجة بأسباب حكمها الصادر بتاريخ : 24/10/1992 والمرتبطة بالمنطوق بعدم جدية الدفع بعدم دستورية القانون رقم 114 / 86 بشأن المصورات الجوية ، وإذ لم يطعن مورث الطاعنين في هذا الحكم أمام لجنة فحص الطعون بالمحكمة الدستورية ، والمختصة وحدها بنظر ذلك الطعن والفصل فيه دون محكمة الاستئناف التي طرح عليها الطعن فيكون قضاءها بتاريخ : 28/12/1994 بإحالة المنازعة الدستورية في القانون سالف الذكر إلى هذه المحكمة غير جائز لانتفاء ولايتها في هذا الخصوص ، ويكون اتصال المحكمة الدستورية بالدعوى المطروحة قد جاء بغير الطريق القانوني ، بما تضحي معه الدعوى الدستورية غير مقبولة ، وهو ما يتعين القضاء به . . " .
والحقيقة أن لجنة فحص الطعون بالمحكمة الدستورية الكويتية أثارت بعض الجدل لدي دارسي الموضوع من أساتذة الحقوق في الكويت .
وقد آثار البعض شكوكا حول دستورية هذه اللجنة . . ذلك أن النص الدستوري لم يشر إليها ، وانما أنشأها قانون المحكمة . . كما أثير أيضا مدي اتفاق وجود هذه اللجنة ونهائية أحكامها وحجبها لكثير من القضايا من أن تصل إلى المحكمة الدستورية . . أثير أيضا مدي اتفاق ذلك مع مبدأ مركزية الرقابة الذي اخذ به الدستور عندما عهد إلى جهة واحدة دون غيرها برقابة دستورية القوانين .
والحقيقة أن هذه اللجنة قامت بدور واضح في عدم وصول كثير من القضايا التي لم تقبل المحاكم الموضوعية فيها جدية الدفوع إلى المحكمة الدستورية وذلك باتجاهها الغالب لتأييد محاكم الموضوع في رفض الدفوع واعتبارها غير جدية . . ويبدو أن لجنة فحص الطعون في كثير من الحالات تجاوزت أمر النظر السريعة إلى الدفع وذهبت إلى أن تصورت انها " محكمة دستورية من درجة أولى – وإن كان قرارها نهائيا – وتعرضت لدستورية النصوص المطعون فيها .
ولم يكن هناك مبرر لهذه اللجنة خاصة وان الطعون ليست كثيرة . . فعلي مدي سنوات طويلة – حوالي ثلاثين عاما – لم تفصل المحكمة الدستورية إلا في عدد محدود من القضايا منها كثير من المتشابهات التي يجري الحكم في واحدة منها علي كثير من القضايا المماثلة .
ويحسن المشروع الكويتي لو عدل القانون الخاص بالمحكمة الدستورية والغي هذه اللجنة التي لا سند لها في الدستوري .
والحقيقة أن المحكمة الدستورية في الكويت . . مازال دورها محدوداً وغير مؤثر . . بل إن المتغلين بالمسائل الدستورية في جامعة الكويت لا ينظرون إلى أحكامها نظرة الرضا والقناعة (31) .
ثانياً – المجلس الدستوري في المغرب :
انتهت الحماية الفرنسية علي المغرب وبدا عهد الاستقلال من الناحية العملية بعودة الملك محمد الخامس من المنفي في 16 نوفمبر 1955 ، ولكن من الناحية الرسمية تحقق الاستقلال بمقتضى المعاهدات بين فرنسا والمغرب في 2 مارس 1956 والتي أعلنت بمقتضاها إلغاء الحماية واستقلال المغرب .
وفي عام 1962 صدر أول دستور في المغرب في عهد الملك الحسن الثاني وتم استفتاء الشعب عليه في 7 ديسمبر 1962 م .
وفي ويونيه 1965 م أوقف العمل بالدستور .
وصدر دستور ثان في يونيه 1970 .
ودستور ثالث في مارس 1972 والذي عدل في 1992 م ثم في أكتوبر 1996 م ، وقد تأثرت هذه الدساتير جميعا بالدستور الفرنسي الصادر في عام 1958 م والذي يطلق عليه أحيانا دستور ديجول .
وكان طبيعيا أن تتأثر المغرب الدستور الفرنسي نظرا للروابط الثقافية والسياسية والتاريخية بين البلدين . . يقول الدكتور عبد الكريم غلاب " . . من مقارنة بسيطة بين الدستور الفرنسي لسنة 1958 والدستور المغربي . . نجد أن الدستور المغربي اعتمد علي الفرنسي كامل الاعتماد . . نجد أن الدستور الغربي اعتمد علي نصوص الدستوري الفرنسي كاملا أو بعضا وكثير من الفصول ( المواد أو فقرات من الفصول نقلها بالحرف . . " (32) .
وقد صدر القانون الخاص بالمجلس الدستوري في المغرب في ظل دستور 1962 م الذي كان ينظم في الباب السادس منه المجلس الدستوري في المواد من 76 إلى 79 ، والتي يجري نصها علي النحو الآتي :
الفصل السادس والسبعون : يحدث مجلس دستوري .
الفصل السابع والسبعون : يتألف المجلس الدستوري من :
* أربعة أعضاء يعينهم الملك لمدة ست سنوات .
* أربعة أعضاء يعينهم رئيس مجلس النواب لنفس المدة بعد استشارة الفرق النيابية .
وعلاوة علي الأعضاء المشار إليهم أعلاه يعين الملك رئيس المجلس الدستوري لنفس المدة .
يجدد كل ثلاث سنوات نصف كل فئة من أعضاء المجلس الدستوري .
الفصل الثامن والسبعون : يحدد قانون تنظيمي قواعد تنظيم وسير المجلس الدستوري والإجراءات المتبعة أمامه خصوصا ما يتعلق بالآجال المقر لعرض مختلف النزاعات عليه .
ويحدد أيضا الوظائف التي لا يجوز الجمع بينها وبين عضوية المجلس الدستوري ، وطريقة أجراء أول تجديد نصفي لأعضائه ، وإجراءات تعيين من يحل محل أعضائه الذين استحال عليهم القيام بمهامهم أو استقالوا أو توفوا أثناء مدة عضويتهم .
الفصل التاسع والسبعون : يمارس المجلس الدستوري الاختصاصات المسندة إليه بفصول الدستور أو بأحكام القوانين التنظيمية . . ويفصل بالإضافة إلى ذلك – في صحة انتخاب أعضاء مجلس النواب وعمليات الاستفتاء .
تحال القوانين التنظيمية قبل إصدار الأمر بتنفيذها ، والنظام الداخلي لمجلس النواب قبل الشروع في تطبيقه إلى المجلس الدستوري ليبت في مطابقتها للدستور .
وللملك أو الوزير الأول أو رئيس مجلس النواب أو ربع الأعضاء الذين يتألف منهم هذا المجلس أن يحيلوا القوانين قبل إصدار الأمر بتنفيذها إلى المجلس الدستوري ليبت في مطابقتها للدستور .
يبت المجلس الدستوري في الحالا المنصوص عليها في الفقرتين السابقتين خلال شهر . وتخفض هذه المدة إلى ثمانية أيام بطلب من الحكومة إذا كان الأمر يدعو إلى التعجيل .
يترتب علي إحالة القوانين إلى المجلس الدستوري في الحالات المشار إليها أعلاه وقف سريان الأجل المحدد لإصدار الأمر بتنفيذها .
لا يجوز إصدار أو تطبيق أي نص يخالف الدستور .
لا تقبل قرارات المجلس الدستوري أي طريق من طرق الطعن ، وتلزم كل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية " .
وعندما وقع التعديل الدستوري الأخير في أكتوبر 1996 لحقت المواد المتعلقة بالمجلس الدستوري بعض التعديلات .
فقد نصت المادة التاسعة والسبعون علي أن يتألف المجلس الدستوري من اثني عشر عضوا – كانوا من قبل ثمانية – يعين الملك منهم ستة أعضاء ويعين الستة الآخرين مناصفة كل من رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين علي حين كان النص القديم يعطي لرئيس مجلس النواب حق تعين أربعة أعضاء هم نصف أعضاء المجلس آنذاك .
ويشترك النصان أن الملك يعين رئيس المجلس من بين الأعضاء الذين يعينهم .
ومن الأحكام الجديدة في الدستور المعدل . . أن مدة أعضاء المجلس الدستوري – تسع سنوات – غير قابلة للتجديد بعد أن كانت في النص القديم ست سنوات ، وكانت قابلة للتجديد مرة واحدة .
وتجري النصوص بعد تعديلها في الدستور علي النحو التالي :
الفصل الثامن والسبعون :
يحدث مجلس دستوري .
الفصل التاسع والسبعون :
يتألف المجلس الدستوري من ستة أعضاء يعينهم الملك لمدة تسع سنوات ، وستة أعضاء يعين ثلاثة منهم رئيس مجلس النواب وثلاثة رئيس مجلس المستشارين لنفس المدة بعد استشارة الفرق ، ويتم كلا ثلاث سنوات تجديد ثلث كل فئة من أعضاء المجلس الدستوري .
يختار الملك رئيس المجلس الدستوري من بين الأعضاء الذين يعينهم .
مهمة رئيس وأعضاء المجلس الدستوري غير قابلة للتجديد .
الفصل الثامنون :
يحدد قانون تنظيمي قواعد تنظيم وسير المجلس الدستوري والإجراءات المتبعة أمامه خصوصا ما يتعلق بالآجال المقررة لعرض مختلف النزاعات عليه .
ويحدد أيضا الوظائف التي لا يجوز الجمع بينها وبين عضوية المجلس الدستوري . وطريقة أجراء التجديدين الأولين لثلث أعضائه ، وإجراءات تعيين من يحل محل أعضائه الذين استحال عليهم القيام بمهامهم أو استقالوا أو توفوا أثناء مد عضويتهم .
الفصل الحادي والثمانون :
يمارس المجلس الدستوري الاختصاصات إليه بفصول الدستور أو بأحكام القوانين التنظيمية ، ويفصل – بالإضافة إلى ذلك – في صحة انتخاب أعضاء البرلمان وعمليات الاستفتاء .
تحال القوانين التنظيمية قبل إصدار الأمر بتنفيذها والنظام الداخلي لكل من مجلسي البرلمان قبل الشروع في تطبيقه إلى المجلس الدستوري ليبت في مطابقتها للدستور .
وللملك أو الوزير الأول أو رئيس مجلس النواب أو رئيس مجلس المستشارين أو ربع أعضاء مجلس النواب أو أعضاء مجلس المستشارين أن يحيلوا القوانين قبل إصدار الأمر بتنفيذها إلى المجلس الدستوري ليبت في مطابقتها للدستور .
يبت المجلس الدستوري في الحالات المنصوص عليها في الفقرتين السابقتين خلال شهر ، وتخفض هذه المدة إلى ثمانية أيام بطلب من الحكومة إذا كان الأمر يدعو إلى التعجيل .
يترتب علي إحالة القوانين إلى المجلس الدستوري في الحالات المشار إليها أعلاه وقف سريان الأجل المحدد لإصدار الأمر بتنفيذها .
لا يجوز إصدار أو تطبيق أي نص يخالف الدستوري .
لا تقبل قرارات المجلس الدستوري أي طريق من طرق الطعن ، وتلزم كل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية " .
ويبين واضحا من هذه النصوص سواء قبل تعديلها أو بعد تعديلها عام 1956 إلى أي مدي تأثرت هذه النصوص بالتجربة الفرنسية في الرقابة السابقة علي دستورية القوانين بواسطة " مجلس دستوري " مما يجعل التجربة الفرنسية في هذا الخصوص بمثابة الأصل التاريخي للتجربة المغربية .
وننتقل الآن إلى دراسة نصوص القانون التنظيمي – loi organique – المنظمة للمجلس الدستوري وهو القانون الصادر في 14 رمضان هـ - الموافق 25 فبراير 1994 ميلادية .
وقد كانت المادة الأولى من ذلك القانون تتحدث عن أن المجلس يتكون من ثمانية أعضاء – كما تقدمت الإشارة إليه – ولكن التعديل الدستوري جعل عدد الأعضاء اثني عشر عضواً يعينون لمدة ست سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة .
وكل ثلاث سنوات يجدد نصف عدد الأعضاء الذين عينهم الملك ونصف عدد الأعضاء الذين عينهم كل من رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين .
وأعضاء المجلس الدستوري لا يجوز لهم الجمع بين عضوية المجلس وعضوية الحكومة أو أي من مجلسي البرلمان – النواب أو المستشارين – أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي ، وكذلك أي وظيفة عامة أخرى .
ويلتزم أعضاء المجلس الدستوري بامتناع عن كل ما من شانه أن ينال من استقلالهم من كرامة المنصب الذي يتقلونه .
ويؤدي رئيس المجلس وأعضاؤه قبل مباشرة عملهم اليمين أمام الملك ، ويعقد المجلس جلساته في غير علانية .
اختصاصات المجلس الدستوري في المغرب :
شانه في ذلك شان المجلس الفرنسي فان هناك اختصاصات وجوبيه وأخري جوازيه .
وعلي أي حال فانه سواء بالنسبة للاختصاصات الوجوبية أو الجوازية فان رقابة المجلس هي رقابة سابقة أي قبل إصدار القانون . . ذلك أن القانون بعد أن يصدر لا يجوز الطعن فيه بعدم الدستوري .
الاختصاصات الوجوبية :
(أ) تحال إلى المجلس الدستوري القوانين العضوية أو التنظيمية بواسطة الوزير الأول بعد إقرارها من مجلس النواب وقبل التصديق عليها من الملك . فإذا رأي المجلس الدستوري انها مطابقة للدستور أصداها الملك ، وإذا رأي المجلس عدم مطابقتها فأنها تعتبر كان لم تكن .
(ب) كذلك يحيل رئيس مجلس النواب إلى المجلس الدستوري النظام الداخلي لمجلس النواب والتعديلات المدخلة عليه بعد إقرارها من قبل البرلمان وقبل التصديق عليها من الملك .
الاختصاصات الجوازية :
ويجوز للملك قبل أن يصدر القانون كما يجوز للوزير الأول ولرئيس كل من المجلسين أو لعدد من أعضاء كل مجلس – لا يقل عن ربع عدد الأعضاء – أن يطلب من المجلس الدستوري بيان وجه الراب في مطابقة تشريع معين أو عدم مطابقته للدستور .
ويبت المجلس الدستوري في مطابقة القانون للدستور خلال شهر من أحالته إليه أو في غضون ثمانية أيام في حالة الاستعجال .
" لاحظ التطابق بين النصين الفرنسي والمغربي " .
(ج) يختص المجلس الدستوري المغربي أيضا – شانه شان المجلس الفرنسي – بالنظر في المنازعات المتعلقة بانتخاب أعضاء مجلس النواب .
(د) ويتولى المجلس الدستوري أيضا مراقبة سلامة عمليات الاستفتاء كما يعلن نتائج الاستفتاء .
ويجوز الرجوع إلى قرارات المجلس الدستوري الفرنسي للاستعانة بها في المغرب نظرا لتماثل النصوص في كل من البلدين .

مشاركة مميزة

أساتذة القانون يطالبون بولوج مهنة المحاماة

أثارت مسودة مشروع مهنة المحاماة، التي أعدتها جمعية هيئات المحامين بالمغرب، نقاشا واسعا في صفوف أساتذة القانون بمختلف كليات الحقوق على الصع...

المشاركات الشائعة